يتصور البعض أن تسارع الأحداث في مصر يمكن أن ينتهي إلي اقامة دولة الفقيه والذي يعطي لهذا التصور أرجحية هو تصريحات بعض رموز التيار الاسلامي حول اقامة دولة الخلافة الاسلامية في مصر ونزول مرشحين إلي الانتخابات الرئاسية أقرب في أفكارهم وخطابهم إلي رجال الدين من السياسيين ورجال الدولة حيث ينادي بعضهم بفكرة انشاء هيئة ¢الحل والعقد¢ التي ستطبق الشريعة. كما يدعم هذا التصور الانقسام حول القواعد المؤسسة لإقامة الحكم الرشيد الذي ظهر بجلاء عند تشكيل الجمعية الدستورية وحالة استنفار جانب كبير من القوي المدنية ضد سيطرة الأغلبية الاسلامية علي الجمعية وافشال تشكيلها بحجة رفض ومقاومة محاولات التيار الاسلامي اصباغ الدستور بالصبغة الدينية ويمكن في هذا السياق رصد حالة الترقب التي تسود بعض الدول العربية الشقيقة وإعلان بعض مسئوليها عن وجود مخاوف من فكرة تصدير الثورة المصرية إليها علي غرار ما حدث في دولة الفقيه الايرانية. والتساؤل الذي يثار في هذا الاطار يدور حول ما المقصود بمفهوم دولة الفقيه؟ وما مدي امكانية تحقق نموذج دولة الفقيه في مصر؟ بداية. قد يكون من المناسب الاشارة إلي البلاغ رقم 823 لسنة 2012 الذي تقدم به سعيد محمد عبدالله وكيل مؤسسي حزب العدالة والمساواة إلي رئيس لجنة شئون الأحزاب بدار القضاء العالي لوقف نشاط بعض الأحزاب لانتهاكها الدستور والقانون واتخاذها خطوات تهدد النظام الجمهوري وتنتهي بإقامة دولة الفقيه في مصر. بالنسبة للمفهوم ففي دراستها عن "نظرية ولاية الفقيه وتطبيقاتها" أكدت الدكتورة شيماء الدمرداش زكي ان ولاية الفقيه مصطلح سياسي في الفكر الشيعي يعتبرها فقهاء ولاية وحاكمية الفقيه الجامع للشرائط في عصر غيبة الإمام الحجة حيث ينوب الولي الفقيه عن الامام الغائب في قيادة الأمة واقامة حكم الله علي الأرض وذكرت ان نظرية ولاية الفقيه أدخلت فكرتي البيعة والانتخاب كأساس للولاية كما اشترطت ركنين رئيسيين وهما الفقاهة والعدالة باعتبارها مبدئين وركنين جديدين لم يعرفهما الفكر الشيعي الذي طالما اشترط العصمة والنص في الخلافة. عند الشيعة أشارت إلي أن مفهوم ولاية الفقيه مفصل محوري في تطور الفكر السياسي عند الشيعة ابان قيام الثورة الاسلامية الايرانية مؤكدة ان هذه النظرية هي التي أخرجت المذهب الشيعي من عزلته وتقيته التي لازمته علي مدار قرون ومكنته من إقامة الدولة. وكشفت ان نظرية ولاية الفقيه مرت بست مراحل في تاريخ تطورها بدأت المرحلة الأولي بعصر حضور الأئمة المعصومين وينحصر فيما أخذ من أحاديث المعصومين الدالة علي ضرورة اقامة الدولة الاسلامية في جميع العصور وان الفقهاء هم ورثة الأنبياء وعليهم اصلاح الأمة حيث انتهت هذه المرحلة إلي مفهوم النيابة الخاصة عن الامام الثاني عشر في فترة الغيبة الصغري لنوابه الأربعة حيث كان عملهم كالوسيط بين الإمام الحجة وبين الشيعة ثم تطورت النيابة الخاصة إلي نظرية النيابة الواقعية عن الامام الغائب. وبينت ان المرحلة الثانية بدأت منذ الغيبة الكبري حتي ظهور الدولة الصفوية وفي هذه الفترة أقر الفقهاء بالنيابة العامة لجميع الفقهاء الجامعين للشرائط في الأمور الشرعية فقط عن الإمام الغائب. أما المرحلة الثالثة وتمثل العصر الصفوي حيث قامت أول دولة شيعية المذهب في التاريخ واستمر مفهوم النيابة العامة عن الامام الغائب للفقهاء الجامعين للشرائط ولكن مع تطبيق مختلف يعطي للحاكم قدسية وهي ان الفقيه نائب للإمام المعصوم والسلطان نائب للفقيه. قالت ان المرحلة الرابعة بدأت منذ العصر القاجاري حتي قيام ثورة التنباك "التبغ" وظهور المولي النراقي وهو أول من قال بولاية الفقيه المطلقة في الأمور الشرعية. أوضحت د. شيماء ان المرحلة الخامسة ظهرت مع قيام ثورة التنباك ومن بعدها الثورة الدستورية حيث بدأ ظهور نشاط للمؤسسة الدينية علي الساحة السياسية مما أدي إلي ظهور اتجاهين متفاوتين فيما عرف بالمشروطية أو الملكية الدستورية. تؤكد ان اتجاه المشروطية طالب برقابة الفقهاء علي الدستور ومثل هذا الاتجاه الفقيه آية الله النائيني. أما الاتجاه الثاني وهو الملكية الدستورية والذي يعرف بالمشروعة فيري ضرورة أسلمة السلطة حتي تكون سلطة مشروعة ومثل هذا الرأي الفقيه فضل الله نوري. وتوصلت إلي ان المرحلة السادسة بدأت عام 1941 عندما ثارت المؤسسة الدينية علي دعوة الشاه إلي الثورة البيضاء والتي جاءت مخالفة للشريعة الاسلامية وظهر آية الله الخميني كمحرك للجماهير ضد الشاه وبدأ في وضع بذرة نظريته في ولاية الفقيه العامة والتي قامت علي أساسها ثورة ودولة الفقيه في عام 1979م. وانتهت إلي أن الفكر الشيعي تنازل عن مفهوم الثورة أما مفهوم البيعة للفقيه ممثلا في آية الله الخميني الذي تتلخص فكرته حول ماهية الحكم الاسلامي في وجوب اقامة حكومة اسلامية في جميع الأوقات والأحوال وفي ذلك زمن الغيبة وان الحكومة الاسلامية هي حكومة القانون الإلهي والفصل بين الدين والسياسة فكرة استعمارية تتعارض مع مبادئ الاسلام ويجب تطهير الفكر الاسلامي منها ومن رواسبها والفقيه القاضي في مرتبة الوصي والفقهاء هم حجة الله في الأرض وحصون الاسلام. فزاعات استنكر النائب صبحي صالح عضو مجلس الشعب استمرار اسلوب اثارة الفزاعات ضد أنصار المشروع الاسلامي بترويج مقولات اقامة الدولة الدينية ودولة الفقيه وقال ان استدعاء مفهوم الدولة الدينية مغرض لأن المقصود به هو عصور الظلام في القرون الوسطي وتسلط الكنيسة علي الناس وترسيخها نظرية الحق الإلهي أو التفويض الالهي القائمة علي قداسة الحاكم المعصوم الذي يصدر الأحكام بالنيابة عن الإله والواجب علي العباد طاعته. وحذر من محاولات العبث بالمفاهيم وتصنيع الحدود بين المصطلحات بهدف تضليل الناس وإرهابهم وتنفيرهم من المرجعية الاسلامية مشيرا إلي أن الدولة الدينية أساءت للاسلام الذي لا يعرف تقديس الأفراد ولا العصمة كما لا تعرف تطبيقه الدولة الثيروقراطية وانما يأخذ بقاعدة "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته". وبين ان التاريخ البشري شهد نماذج عديدة من النظام السياسية أهمها الدولة العسكرية التي تعتمد علي القوة وتستبد بالشعب وتحتكر السلطة بالقوة مضيفا ان النظم الديكتاتورية تقيم مشروعية الحكم علي أدوات الدولة البوليسية وقهر الأفراد وتغييب الحقوق والحريات. أوضح ان الدولة الدينية تظهر عندما يحتكر مجموعة من الأفراد أو طائفة السلطة باسم الدين لافتا إلي أن النظام الشيعي يعطي العصمة للأئمة ويمنح الفقيه سلطة علي مؤسسات الدولة لذلك تجد ان رئيس الدولة ليس هو الرجل الأول في الدولة وانما يأتي بعد الأئمة والفقهاء. أضاف ان الاخوان يريدون دولة مدنية بمرجعية اسلامية مبينا ان الاسلام أقام أقدم دولة مدنية في تاريخ البشرية علي أسس ديمقراطية بالانتخاب الحر المباشر وعرفت الدستور المكتوب والمؤسسات الدستورية. وقال ان الاسلام أقام الدولة علي مبدأ الشوري وأوجب علي الحكام تحقيقها وتنفيذها بين الناس. موضحا ان الدين الحنيف يرفض أن تقام الدولة علي مبدأ عصمة الامام أو التفويض الالهي أو ولاية الفقيه. وشدد علي ان الرسول صلي الله عليه وسلم وهو المعصوم لم يمارس العصمة في السياسة وقال انه أسس الدولة الاسلامية علي العدل والانصاف والشوري وسيادة القانون ووحدة الشعب وسيادته واحترام إرادته وكل قراراته عليه الصلاة والسلام اتخذها بالشوري سواء في غزوات بدر أو أحد أو الأحزاب وصلح الحديبية. أشار إلي أن الجهود يجب أن تنصب علي بناء دولة ديمقراطية حديثة تقوم علي سيادة القانون والشفافية والعدالة واحترام إرادة الناس والرقابة علي الحكام مؤكدا ان البعض يزعم ان ترشيح رموز اسلامية للانتخابات الرئاسية معناه حكم رجال الدين والمشايخ وإقامة للدولة الدينية وهي مغالطات تتجاهل حقائق الواقع والمنطق هدفها تشويه المشروع الاسلامي وأنصاره. الديمقراطية الحديثة أكد الدكتور سعد بدير الحلواني استاذ التاريخ والحضارة الاسلامية بجامعة الأزهر ان الاسلام لا يعرف الدولة الثيوقراطية التي عرفها الغرب في العصور الوسطي والتي يحكمها رجال الدين والتي تستند إلي الحق الإلهي المطلق وتفويض رجل الدين للحكم باسمه مبينا ان التاريخ السياسي للعالم الاسلامي عرف نظرية ولاية المتغلب التي سادت أهل السنة في الحكم وكانت بمثابة تأصيل فقهي نظري للواقع السياسي الذي فرض نفسه ابتداء من قيام الدولة الأموية. وقال ان نظرية ولاية الفقيه الخاصة بالشيعة الإمامية أو الاثني عشرية جاءت كتدخل فقهي نظري لإنقاذ الفكر السياسي الشيعي من حالة الجمود والاختناق التي انتهي اليها في أعقاب غيبة الإمام الثاني عشر. محمد بن الحسن في أوائل القرن الرابع للهجرة حيث تقوم علي فكرة أن يحل الفقيه محل الامام الغائب في تولي السلطة السياسية الكاملة. يضيف ان الثورات التي حدثت في الدول العربية قامت للقضاء علي الدولة الديكتاتورية وحكم الفرد وغياب شرائط النهضة والتنمية والتقدم مشيرا إلي أن الأنظمة الساقطة فرضت علي الشعوب التخندق المذهبي والصراع الديني ودولة القبيلة ولم تعمل لتأسيس دولة مدنية ديمقراطية حديثة. يؤكد ان ثورات الربيع غيرت الواقع السياسي في المنطقة العربية لأنها وضعت ضمن أهدافها إقامة الدولة المدنية لافتا إلي أن الشعوب ترفض الردة وتبني الأفكار الرجعية التي تخلق كيانات أو هيئات دينية لها صلاحيات خاصة وتتطلع لبناء مجتمعاتها علي أسس حديثة تراعي الهوية الاسلامية والانتماء الحضاري للأمة. يقول ان الواقع السياسي الجديد فرض تحديات مهولة أمام دولة ولاية الفقيه وساهم في تعميق مأزقها النظري والسياسي مضيفا ان هناك دعوات تتصاعد من مراجع شيعية ترفض نظرية ولاية الفقيه وتنادي بضرورة فصل الدور الديني للفقيه عن دوره السياسي. باسم الدين اعتبر المهندس أحمد بهاء الدين شعبان "الحزب الاشتراكي المصري" ان الاستبداد باسم الدين والتسلط علي العباد بحجة المرجعيات أدي إلي تخلف المجتمعات ومعاناة الشعوب وقال ان الدولة المدنية تتفق مع الفهم الصحيح للاسلام وقيمه ومقاصده التي تدعو إلي المساواة والعدل وسيادة الشعب وإعلاء القانون. حذر من الخلط بين المفاهيم السياسية والانحراف في تأويلها وتفسيرها لتشويهها وإثارة الشبهات حولها مبينا ان الديمقراطية لا تتعارض مع الدين حيث انها ترسخ الحقوق وتؤكد علي الحريات ودور المؤسسات التي تحمي الشرعية وان الناس جميعا أمام القانون سواء وكلها من أصول الدين. ويعترض علي المقولات التي ترجع نشأة فكرة الدولة المدنية إلي العالم الغربي مؤكدا انها نبت اسلامي أصيل وقيمة متجزرة في تراثنا وفكرنا وبنائنا الحضاري. ويقول ان الشعوب التي ثارت ضد الحكام المستبدين لن تقبل أن تعيد انتاج دولة الاستبداد مرة أخري تحت مسمي ديني زائف. مبينا ان الاسلام لا يعرف دولة حكم الشيوخ ولا الفقهاء ولن ترضي باستجلاب نماذج شائهة أثبتت فشلها ولم تفلح في تغيير واقع شعوبها وتحقيق تطلعاتها بل ساهمت بقوة في زيادة تخلفها وممارسة القهر والبطش عليها باسم الدين.