بوفاة النبى صلى الله عليه وسلم انتهى أول وآخر تلاحم بين السلطتين الدينية والسياسة فى تاريخ الإسلام، ولذلك لم يكن غريباً أن تبدأ أول مداولات سياسية مدنية بصبغة بشرية غير معصومة فى سقيفة بنى ساعدة لاختيار أول حاكم مدنى يسوس المسلمين بلا وحى ولا عصمة . فالراجح أن النبى صلى الله عليه وسلم لم يحدد شكلا للحكم بعده وترك ذلك لاجتهادات المسلمين من بعده، ويذهب الكثير من أهل العلم وأرباب الفكر الإسلامي إلى عدم وجود نصوص شرعية من الكتاب والسنة تبيّن طريقة معينة لإقامة وإعلان الدولة أو الخلافة فلا دليل على أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قد حدد طريقة معينة لإقامة الخلافة من بعده، وإنما أوجب النبي صلى الله عليه وسلم إقامة الدولة، وحدد طبيعة النظام السياسي في الإسلام التي تقوم على الشورى، فإقامة الخلافة كعبادة مثل الصلاة، مجرد رأي لا دليل معتبر عليه من كتاب ولا سنة، فالخلافة فرض واجب كفروض الكفايات التي لا تعبد في طريقة أدائها، والصحابة هم أول من أقام الخلافة بعد عهد النبوة كصورة غير مقدسة من صور الحكم كاجتهاد بشرى فى المقام الأول، وقد اجتمعوا في السقيفة، وتشاوروا فيها، وارتفعت أصواتهم، واختلفوا فيها حتى قيل(منا أمير ومنكم أمير)، وحتى قال أبو بكر: "إن العرب لا ترضى إلا بهذا الحي من قريش". وعلى أثر ذلك لم يدع أحد بأن النبي صلى الله عليه وسلم جعلها عبادة لا اجتهاد فيها، أو أنّه حدد لهم طريقة للاختيار فيها. وتذكر مصادر عديدة بأنّ سعد بن عبادة رفض المصادقة على مبايعة أبى بكر الصديق رضي الله عنه، وقال كلمته المشهورة :والله لا أبايعهم أبداً"، وهذا سيعكس حتماً بأنّ مبدأ الاختلاف في اختيار الحاكم موجود في عصر صدر الإسلام وهو أمر طبيعي، فكيف هو الحال بالعصر الحالي، فلا نستغرب من تعدد الأحزاب والتيارات . وكان ذلك فى الحقيقة بداية نشأة الفكر السياسى الإسلامى كاجتهاد بشرى غير معصوم . فكان مفهوم الدولة وشكلها من أول أولويات هذا الفكر التى فرضت نفسها على الصحابة بمجرد وفاة النبى وكان اجتماع الصحابة فى السقيفة عاجلاً وما يزال النبى صلى الله عليه وسلم مسجى على فراشة لم يوار التراب بعد دلالة على أهمية الأمر وخطورته وأن حكم النبى المؤيد بوحى السماء قد انتهى وجاء وقت الفعل البشرى المحض غير المعصوم فى تكوين الدولة وشكل الحكم. مفهوم الدولة يختلف تماماً عن المفهوم الغربي حيث يركز بالدرجة الأولى على مفهوم "الجماعة" وتحقيق الترابط ومبدأ الوحدة الاجتماعية وذلك من خلال توجيه نبينا صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالجماعة فإنّ يد الله مع الجماعة" وبالتالي فإنّ العدالة في المفهوم الإسلامي هي أساس الملك والحكم، لكن مع اختلاف تطبيق مبدأ العدل نسبياً من جهة ومن حالة ومن زمان إلى آخر، ولا يكون تطبيقه مطلقاً أو كاملاً إلاّ بوجود حاكم صحيح الإيمان وراجح العقل يتمتع بقدرات يتميز فيها عن غيره من الآخرين. ولعل ربط قيمة العدالة كقيمة مؤسسة للدولة فى الفكر السياسى الإسلامى بنوعية الحاكم من أكبر الإشكاليات التى بدأت منذ انتهاء الدولة الراشدة وبداية حكم الأمويين فأصبح الحاكم العادل مثلاً أعلى يكاد أن يكون أسطورياً، وذلك لأن معايير اختيار الحاكم بإرادة الأمة انتهت وأصبح الحكم وراثياً ملكياً، وترك الأمر للمصادفة القدرية فإما حاكماً عادلا أو ظالماً قاتلاً بالشبهة ولعدم تحقق هذه الصفة المؤسسة كثرت الثورات على مدار الدول الإسلامية المتعددة، انتهت التجربة الراشدة الأولى سريعا والتى كانت حرية بترسيخ مبدأ الاختيار عل أساس معايير موضوعية للحاكم جوهرها العدل . وإذا كان العدل هو الركيزة الأولى للدولة فى الإسلام فإن المدنية هى صبغتها الحاكمة وبذلك يؤكدّ الشيخ يوسف القرضاوي في نفس الإطار بأنّ مفهوم الدولة الإسلامية كما جاء بها الإسلام، وكما عرفها تاريخ المسلمين دولة مَدَنِيَّة، تقوم السلطة بها على البَيْعة والاختيار والشورى والحاكم فيها وكيل عن الأمة أو أجير لها، ومن حق الأمة مُمثَّلة في أهل الحلِّ والعَقْد فيها أن تُحاسبه وتُراقبه، وتأمره وتنهاه، وتُقَوِّمه إن أعوجَّ، وإلا عزلته، أما الدولة الدينية "الثيوقراطية" التي عرفها الغرب في العصور الوسطى والتي يحكمها رجال الدين، والذين يتحكَّمون في رِقاب الناس وضمائرهم أيضًا باسم "الحق الإلهي" فما حلُّوه في الأرض فهو محلول في السماء، وما ربطوه في الأرض فهو مربوط في السماء؟ فهي مرفوضة في الإسلام، وليس في الإسلام رجال دين بالمعنى الكهنوتي إنما فيه علماء دين، يستطيع كل واحد أن يكون منهم بالتعلُّم والدراسة، وليس لهم سلطان على ضمائر الناس.( انتهى قوله بتصرف) وإذا كانت العدالة هى القيمة المؤسسة للحكم فى الإسلام وبتعبير آخر هى مصدر شرعية الحاكم فمتى تحققت شرعيته ومتى ضعفت أو تلاشت شرعيته وبدأت القلاقل والثورات، فإن الشورى هى الآلية الأساسية للحكم فى الإسلام. ويشكل القرآن الكريم وأحاديث النبي صلى الله أحد أهم المصادر الدالة على مبدأ الشورى في جميع جوانب الحياة الاجتماعية والسياسية والفقهية، وعلى رأسها ما يتعلق بالجانب السياسي لأنّه يختص بالمصالح العامة للمجتمع وتنظيم وإدارة شئونها بما يحقق الاستمرارية والعمارة والنهوض للمجتمع، حتى وإن لم يعتبر كثير من المفكرين والفقهاء مبدأ الشورى بأنّه ليس نظرية سياسية بحد ذاتها وإنّما هو أحد جوانبها المهمة، وليس مقتصراً على نظام الحكم الإسلامي ولا المبادئ والأحكام السياسية العامة كما هو الحال في النظريات والرؤى الأخرى الخارجة عن الإطار الإسلامي، كالنظم الديمقراطية الحديثة والمحصورة في القضايا السياسية والقوانين الدستورية ونظم الدولة. ومن أسس الفكر السياسي الإسلامي حرية ومكافحة الفساد والاستبداد والعلو السياسي لدى طبقة واحدة في المجتمع تسيطر على البلاد وتصادر أنفاس العباد، لكن يشدد البعض على أهمية تحقيق مبدأ حرية الرأي والتعبير من خلال إطار الثوابت والقطعيات التي أجمع عليها علماء وفقهاء الشريعة، حيث أنّ الخروج والحياد عنها يعني الانفلات وتعزيز لمفهوم الفوضى والتخبط الفكري وليس كما يزعم البعض بأنّ حرية الرأي والتعبير تكون مطلقة كما هو الحال لدى الفكر السياسي في السياق الغربي. فالعدل والشورى والحرية هى المثل العليا التى أرساها الجيل الأول من الصحابة فى حكمهم الراشد، انتهى عصر الخلفاء الراشدين سنة40ه، وبدأ العصر الأموي حيث بدأ من خلاله تراجع للخطاب السياسي الممثل لتعاليم الدين المنزل، وبدأ خطاب سياسي يمثل تعاليم الدين المؤول حيث بدأ الاستدلال بالنصوص على غير الوجه الصحيح. وقد كان يزيد بن معاوية أول خليفة يصل عن طريق الوراثة، وإن لم يكن هذا المبدأ قد ظهر جلياً في الدولة الأموية كما ظهر في الدولة العباسية والعلوية، وقد صار الواقع يفرض مفاهيمه الجديدة على الفقه الإسلامي، وبدأ التأويل يأخذ طريقه لنصوص الخطاب السياسي، وقام الفقهاء بتقبل هذا الواقع الفاسد الاعتبار وإضفاء الشرعية عليه مما استلب الأمة حقها في اختيار الإمام. Comment *