يقول محمود درويش: "هَزَمَتْكَ يا موتُ الفنونُ جميعُها/ هزمتك يا موتُ الأغاني في بلاد الرافدين/ مِسَلَّةُ المصريّ.. مقبرةُ الفراعنةِ/ النقوشُ على حجارة معبدٍ هَزَمَتْكَ وانتصرتْ/ وأِفْلَتَ من كمائنك الخُلُود". وحدهم أمثال نجم ممن خلقت أفكارهم لتتجاوز العصور والأمكنة، يتحدون الفناء إلى البقاء، وحدهم يعبرون من حاجز الموت الخانق إلى براح الخلود. "قال نجم مات قال"، هكذا استقبل مريدوه ومحبوه الخبر، لا ينكرونه لكنهم يخففون إيلامه لهم، بعزاءهم بأنه سوف يبقى، مكتوبا في الدواوين ومسموعا بصوت رفيقه الشيخ إمام، وقبل ذلك كله محفورا في القلوب بحكاياته البسيطة الآسرة عن الناس الغلابة. الحزن البالغ الذي خلفه الشاعر الذي توقف عمره عند الرقم 84، يؤكد أن أمثاله ممن حباهم الله بمحبة الناس الجارفة، لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون. في مشهدٍ متكرر، يدخل أحد دروايشه باسما، يسأله مستنكرا إشاعة وفاته، يعتدل في جلسته قائلا "أموت إيه؟.. أنا قاعد على قلبكم". هو باقٍ لكنه لن يرد بعد اليوم ردا كهذا، ولن يدخل أحد من باب "ميريت" ليجده منتشيا يطوح رأسه مدندنا بأغانٍ وطنية، وإلى جانبه محمد هاشم، ليتحلق الصغار حوله، ويستطرد هو في قصّ حكاويه عن الوطن والسجون والظلم والحياة المترعة بمفارقات عديدة ومطاردة أمن الأنظمة المتعاقبة له، وكونه ضيفا دائما في المعتقلات والسجون يفسر وصف السادات له ب"الشاعر البذيء"، فالثائرون المجاهرون من الشعراء محرمةٌ عليهم معسكرات السلطة، لا يقتربون منها لئلا يمسس أرواحهم عطبها. "ممنوع من السفر/ ممنوع من الغنا/ ممنوع من الكلام/ ممنوع من الاشتياق/ ممنوع من الاستياء/ ممنوع من الابتسام/ وكل يوم فى حبك/ تزيد الممنوعات/ وكل يوم باحبك/ أكتر من اللى فات" حال أحمد فؤاد نجم باختصار، من سجن لمعتقل والعكس، يتنبأ من "طرة" بأن يناير هو شهر يطرد المصريون فيه خوفهم: "كل ما تهل البشاير من يناير كل عام/ يدخل النور الزنازين يطرد الخوف والظلام/ يا نسيم السجن ميل/ ع الشجر وارمي السلام". "حبيبتي يا سفينة، متشوقة وسجينة/ مخبر في كل عقدة/ عسكر في كل مينا/ يمنعنى لو أغير/ عليكى أو أطير/ بحضنك أو أنام/ في حجرك الوسيع/ وقلبك الربيع/ أعود كما الرضيع/ بحرقة الفطام". يكتب نجم مصر كما يراها، بهية القادرة أحيانا على قهر الزمن أو بهية المغلوبة على أمرها والمكبّل أبناءها، الباكية على القوانين والمعششة بالمخبرين في أحيان أخرى. يقف في صف أي حركة ثورية، يكتب لانتفاضة الطلبة عام 1972 "أنا رحت القلعة وشفت ياسين/ حواليه العسكر والزنازين/ والشوم والبوم وكلاب الروم/ يا خسارة يا أزهار البساتين/ عيّطي يا بهية على القوانين". الفاجومي الذي كتب "هما مين وإحنا مين"، هو نفسه المرهف الذي قال على لسان الشيخ إمام: "أنا أتوب عن حبك أنا؟/ أنا ليا في بعدك هنا؟/ ده أنا بترجاك الله يجازيك/ يا شاغلني معاك وشاغلني عليك/ وإن غبت سنة/ أنا برضه أنا/ لا أقدر أنساك ولا ليّا غنا/ ولا أتوب عن حبك أنا". لا تخلو قصائده من سخريته شديدة المرارة، كان رحمه الله، بارعا في تقليب المواجع كما كان يستولد الأمل من أضلع المستحيل، خصوصا في تلك الفترة التي أعقبت ثورة 25 يناير مرورا ب 30 يونيو، كان يرى دوما أن الشعب الذي حبس من الرؤساء اثنين قادر على فعل شيء. المولود بالشرقية عام 1929 لم يعش الحياة بل عاناها، صاحب السنوات السبع يعيش في ملجأ يغادره بعد تسع سنوات، كانت وقتها قد علّم نفسه القراءة، عمل فلاحا وبائعا وموظفا وعاملا في السكة الحديد، ديوانه الأول أصدره وهو سجين لتبدأ رحلة المشاغبة التي أُسدل الستار عليها في 3 ديسمبر الكئيب، لتشيع جنازته بسيطة كصاحبها، تمرق عبر الشوارع وبين الناس من الحسين لمقابر السيدة عائشة، لينضم إلى إمام في صحبة سماوية، يستطيع أن يغني الأول على عوده، ويقرأ الثاني ما تيسر من الشعر. يرثينجم جيفارا - وبدا يرثي نفسه - أبلغ من أي شاعر آخر: " مات المناضل المثال/ يا ميت خسارة ع الرجال".. "يمكن صرخ من الألم/ من لسعة النار فِ الحشا/ يمكن ضحك أو ابتسم/ أو ارتعش أو انتشى".