لا تريد مصر الثورة دستوراً استبدادياً بأقنعة ديمقراطية، فقد سئمنا كل دساتير الماضى التى تضلل الشعب بصيغ براقة وكلمات جوفاء. وكانت أبواق الدعاية تمرر هذه الدساتير إلينا باعتبارها فتحاً جديداً فى تاريخ مصر والعالم، ثم نصطدم بالواقع المر، واقع عدم وجود ضمانات، وواقع أن ما يتم إعطاؤه باليمين فى مادة يتم سحبه بالشمال فى مادة ثانية أو فى قانون مفسر لها يفرغ أى مضمون ديمقراطى لها! ولم ينجُ من هذا التضليل أى من الفصائل المتناحرة عندما أتيح لها القيام على أمر الدستور؛ لا العلمانيون ولا الإسلامويون، فكلاهما يتقنع بالديمقراطية بينما يمارس فى الحقيقة الاستبداد. فلا يكفى أن ينص الدستور الجديد على حرية الاعتقاد، بل يجب أن يقدم ضمانات لها؛ فكثيرا ما رأينا دساتير ترفع شعارات الحرية، ثم تتركها دون ضامن، ومن ثم تتحول إلى سراب على أرض الواقع! واليوم نحن نعقد الأمل على لجنة الخمسين فى أن تتجاوز الماضى، وتأخذ بأيدينا إلى عصر جديد يُظهر الديمقراطية ويُبطنها، ويضع دستوراً غير مراوغ يضمن حقوق الجميع. وأثمن هذه الحقوق حرية الاعتقاد واحترام التنوع، ولا معنى لديمقراطية حقيقية دون أن تتأسس على حرية الاعتقاد بالمعنى الواسع؛ حرية الاعتقاد الدينى وحرية الاعتقاد السياسى وحرية الاعتقاد الاجتماعى. واليوم أريد أن أتوقف لأستعيد معكم بعض البديهيات التى غابت نتيجة المزايدة على الدين عند من يظنون أنفسهم أوصياء على العقيدة وعلى الناس، وللعجب أنهم يمارسون هذا باسم دين جاء أساساً ضد فكرة فرض الوصاية ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ﴾. فموقف الإسلام الحر من حرية الاعتقاد الدينى لا مجال للجدل فيه، لكن المشكلة دائما تكمن فى ممارسة بعض المسلمين الذين يتأسلمون أكثر من الإسلام نفسه، مع أن نصوص القرآن قطعية الدلالة؛ حيث يقول الله (تعالى): ﴿لَا إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ﴾. ومع أن الدين الحق واحد، فقد سمح القرآن بتعددية الأديان فى الواقع الفعلى: ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِىَ دِين﴾، بل اعتبر الاختلاف بين الناس أمراً طبيعياً وسنة من السنن الكونية، يقول تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾. والذى يفصل بين الناس هو الله (تعالى) وحده يَوْم الْقِيَامَة؛ فلا قاضى آخر يمثله، ولا أحد يتحدث باسمه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ﴾. ولم تكن هذه النصوص بمعزل عن الواقع، بل تجلت فيه على أنحاء شتى، سواء على مستوى حركة المجتمع أو على مستوى ممارسات الدولة؛ فهذا عمر بن الخطاب رأس الدولة تأتيه امرأة مشركة تطلب حاجة لها، فدعاها إلى الإسلام لكنها رفضت، فقضى لها حاجتها، وشعر أنه ربما يكون تصرف بشكل فيه نوع من الإكراه المعنوى لها على الإسلام تحت ضغط الحاجة، فاستغفر الله على ما فعل، وقال: «اللهم إنى أرشدت ولم أُكره». ومن قبل «الفاروق» قدمت تصرفات أستاذه وأستاذنا (صلى الله عليه وسلم) مبدأ عاماً وقاعدة لا يمكن خرقها، وجاءت ممارساته ومواقفه الحرة مؤيدة لذلك، حيث يروى «الطبرى» فى «جامع البيان» عن «ابن عباس»: أن رجلاً من بنى سالم بن عوف، يقال له «الحصين»، كان له ولدان مسيحيان وهو مسلم، فسأل الرسول (صلى الله عليه وسلم) أن يُرغم ولديه على الإسلام، بعد أن أصرا على التمسك بالمسيحية، فنهاه الرسول عن ذلك، ونزلت آية ﴿لَا إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ﴾. وبعد فتح خيبر وجد الرسول (صلى الله عليه وسلم) بين الغنائم نسخاً من التوراة، فأمر بردها إلى اليهود. وكان لهذا المبدأ انعكاس مثالى على بعض الفقهاء، لدرجة أن «الشافعى» اختلف مع «أبى حنيفة» حول مدى جواز مفاتحة الزوج المسلم لزوجته غير المسلمة فى مسألة اعتناق الإسلام، فقد رأى «أبوحنيفة» جواز ذلك بشرط عدم الإكراه، بينما رأى «الشافعى» أنه لا يجوز أن يعرض الزوج الإسلام على زوجته «لأن فيه تعرضاً لهم، وقد ضمنا بعقد الذمة ألا نتعرض لهم». وهذا يؤكد نزوع الفقهاء الكبار نحو احترام حرية الاعتقاد، بل وتقديم ضمانات تنال احترام المشاعر، وتنبذ أى نوع من التأثير المعنوى؛ فالله ليس بحاجة إلى من يأتيه كرهاً، وهو غنى عنه، ولو شاء لهداه إلى الإيمان، لكنه يريد (سبحانه) أن يأتيه عبده بكامل إرادته الذاتية وبرغبته الحرة بشكل مطلق، وهذه إحدى دلالات ما نقصد من معانى «الإسلام الحر»، ولذا قال الإمام محمد أبوزهرة عن الحرية الشخصية إنها: «حرية الشخص فى أن يعتقد ما يراه حقاً، وأن يتصرف فى دائرة شخصه بما يعود عليه بالخير فى نظره من غير تدخل من أحد، ولا تحكم ذى سلطان فى إرادته». إن المجتمع فى الإسلام قائم على التعددية وحماية الجماعات الضعيفة والأقليات، ومحاربة التمييز ضد حقها فى الحرية. وينبغى استعادة هذه المفاهيم المدنية وتقنينها فى الدستور والقانون وتوسيع نطاق دورها وتدريب الناس عليها، حتى يتحولوا إلى كائنات حرة مسئولة دون قهر أو إقصاء، وأيضاً دون فوضى أو عشوائية.. إنها معادلة صعبة فى مجتمع مراهق سياسياً، لكن لا بد أن نصنعها إذا أردنا دولة حرة يحكمها دستور عادل يحفظ الأمن والنظام العام والدولة الوطنية لكنه لا يفرط فى الحرية، فهل يمكن أن نفعلها؟ والذى أريد أن أستنبطه من هذا كله لا يخص المتشددين من الإسلامويين فقط الذين يحتكرون الحقيقة، بل يخص المتطرفين من العلمانيين الذين لا يقلون فى ادعاء احتكار الحقيقة عن الإسلامويين، فعلى الرغم من اختلاف المقاصد بين الاثنين فإن «ماكينة التفكير» واحدة، وتنتج طحيناً من نفس النوع، الفرق فقط فى اللون لا فى الطعم! إنها مأساة العقل السياسى المصرى المحكوم ببنية واحدة رغم اختلاف الثوب الخارجى!