يجب التأكيد مجدداً على أن الإسلام هو الإسلام وليس المسلمين، هو القرآن والسنة الصحيحة فقط، وقد اكتمل الدين فى اللحظة التى أعلن فيها القرآن هذا، وبالتالى فكل ما زاد على ذلك مجرد اجتهاد بشرى يصيب ويخطئ، والإسلام الحر ليس إسلاماً آخر، وإنما الإسلام نفسه فى طبعته الأولى الأصلية دون أقنعة أو تلوين سياسى أو اجتماعى من أجل مصالح فئوية. إنه عودة لمنابع النهر الصافية: القرآن والسنة الصحيحة. ومعظم التيارات التى انبثقت فى التاريخ الإسلامى فهمت الإسلام وفق فهم بشرى (خاص)، وليس فى هذا عيب، وإنما العيب عندما يزعم فصيل أن فهمه للإسلام هو الحق المطلق، وما سواه باطل مطلق! وهنا منشأ التكفير والتفجير، والانشقاق والصراع المميت، ولذا يجب العمل على تحرير التصور الأصل من الشوائب المشوهة التى لحقت به، سواء من البدع فى مجال العبادات أو الابتداع فى مجال السياسة؛ حتى يبرأ الأصل من شبهات الصور المزيفة له، ويعود هذا الأصل إلى جذره «الحر» فى أصوله الأولى النقية: القرآن والسنة الصحيحة. وبداية تحرير المفهوم تكون باللغة، لكنها ليست اللغة فى عالمها الضيق الحرفى، بل اللغة فى فضائها الحر، واللغة فى هذا الفضاء هى صورة الفكر؛ فالفكر هو الذى يصنع اللغة، فهى صورته وليست أصله، على عكس بعض تيارات التعصب والانغلاق التى تفكر حسب حرفية اللغة فتقع فى التشدد، حيث يصبح المعنى أسير الحرف! فصفة «حر» ليس معناها هنا «الحرية» فقط كما قد يتوارد إلى الذهن، وأيضاً «الحر» ليس مرادفاً ل«ليبرالى» فى معناه الغربى الضيق. «الحر» هنا وصف للإسلام بسمة جوهرية فيه، ومعناه متعدد الدلالات؛ فالحر هو «الخالص pure من الشوائب» مثلما نقول: «ذهب حر أو ماس حر»، أى نقى خالص لا يشُوبه مَعْدِنٌ آخَرُ، وهذا هو إسلام القرآن والسنة قبل الصراع على السلطة، وقبل نشوء الفرق؛ فمن المعروف أن بداية ظهور الفرق فى تاريخ المسلمين كانت بسبب الاقتتال على الخلافة. والحر أيضاً هو «الأصيل»، يقال «فَرسٌ حُرٌّ أى عتيقُ الأَصْل». وبهذا المعنى، فإننا نريد الرجوع بالإسلام إلى أصالته قبل أن يلونه البعض بمواقفه السياسية ومصالحه الدنيوية من أجل السلطة أو الثروة أو الهيمنة الاجتماعية أو العلو فى الأرض، والحُرُّ هو «الكريم والشهم»، مثلما نقول «رجل حر»، والإسلام فى أصالته هو الإسلام الكريم والشهم، ولا معنى للكرم والشهامة دون إكرام الآخر والدفاع عنه وحمايته، أياً كان الآخر، ومن هنا نفهم معنى الإجارة لمن يستجير وحماية من يطلب الحماية حتى ولو كان فيه ما فيه.. تقول أم هانئ: ذهبت إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عام الفتح، قلت: يا رسول الله، زعم ابن أمى أنه قاتل رجلاً قد أجرته «فلان بن هبيرة»، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ»، وأيضا الوفاء بعهد الأمان لمن أعطيناهم هذا العهد ولو كانوا كفاراً، يقول الرسول الحر (صلى الله عليه وسلم): «ألا من ظلم معاهداً أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس: فأنا حجيجه يوم القيامة»، (رواه أبوداود، وهو صحيح). والحُرُّ هو «الجزءُ الظَّاهر من الوجه»، فالإسلام الحر ليس دين الأقنعة، ولا التلون، ولا العمل السرى، ولا الحياة تحت الأرض، ولا المواربة، ولا النفاق؛ ظاهره كباطنه، يقول ما يفعل، ويفعل ما يقول. والحُرُّ من القوْل أَو الفِعل «الحسن منه»، يُقال: «هذا من حُرِّ الكلام»، والإسلام الحر، لا يعرف لغة التخوين، ولا القذف، ولا «الشتيمة»، وهو ضد من إذا حدث كذب، وإذا خاصم فجر فى القول أو الفعل، والمرأة «الحُرَّةٌ»، هى المرأة الشريفة التى لا تبيع عرضها، ومبادئ الإسلام «حرة» بهذا المعنى؛ فهى لا تباع ولا تشترى، من أجل حفنة دولارات، ولا إرضاء دولة عظمى أو صغرى! والحُرُّ فى اللغة أيضا هو «الخالص من الرقّ»؛ والإسلام حر، لأنه لا يمكن أن يخضع لمستعمر ولا أن يكون مطية لحزب سياسى أو جماعة تسعى إلى السلطة، فقد جاء لا ليحرر الإنسان من العبودية لغير الله وحده، وإنما أيضاً ليحرره من سلطة رجال الدين، ومن تضليل المتحدثين باسم الله، أو طلاب السلطة أو ثروات رجال الأعمال. والحر أيضاً صفة تنطبق على القائل بالحرية والمؤمن بها، والإسلام حر، لأن الحرية فى التصور الإسلامى حق إنسانى أصيل، والحرية هى القدرة على الاختيار فى الحياة أو العقيدة أو السياسة دون خضوع لتأثير خارجى أو إكراه معنوى أو مادى أو تهديد بحرق الوطن، ففى الإسلام الإنسان حر بحكم المولد، قال الفاروق لحاكم مصر، عمرو بن العاص، عندما اعتدى ابنه على مسيحى: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟». والحرية فى الإسلام الحر تحافظ على الدماء والأموال والأعراض وحق التفكير وحق الاعتقاد؛ فلا تكفير للأفكار، ولا إهدار للدماء، ولا قطع للطريق، ولا تعطيل للمصالح العامة، ولا إجبار على اعتناق مذهب، بل لا إجبار على اعتناق الإسلام نفسه، والأولى لا إجبار للآخرين على أن يعيشوا نفس النمط من الحياة الذى أحياه أنا، فللإنسان حق ممارسة الحرية طالما لا يضر نفسه أو الآخرين وفق القوانين، فالحرية فى الإسلام هى الحرية الملتزمة، وهى ضد الفوضوية التى ترجع فلسفياً إلى الفردية المطلقة عند شميت وشترنر وبرودون وباكونين فى الغرب، وإلى القرامطة فى تاريخ المسلمين. والسؤال: ما موقف الإسلام الحر من الصراع على السلطة، وفقه الاختلاف والمصالحة، والتكفير، وإهدار الدماء، والحرية فى المجال العام والخاص، وقطع الطريق، والجهاد، والاجتهاد، وصراع الطبقات، والرأسمالية المتوحشة، والصراع الموهوم بين الولاء للدين والولاء للوطن؟ الحديث مستمر، بإذن الله.