هناك أمران مهمان في الثقافة الإسلامية في كل جوانبها العقيدية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية هما: 1 الحرية. 2 السلام. 1 أما عن الحرية: فالإسلام يكفل لكل إنسان الحرية بجميع أشكالها وربما يستغرب البعض أن لفظ الحرية لم يتكرر في التراث الإسلامي فيظن لقلة خبرته بالتراث أن الحرية ليست أصلاً في هذا التراث الذي جاء فيه الحديث عن الحر والعبد، وربما يتعزز لديه ظن السوء بأن في كتب الفقه الإسلامي بابا عن الرق والرقيق والعبيد والإماء ومذاهب الفقهاء في تحديد وتنظيم العلاقة بين السادة والعبيد أو الجواري ولكننا نلاحظ هنا ملحوظتين: إن حديث القرآن والسنة عن الإنسان بوصفه إنساناً تمثل الحرية ماهيته الأصلية. فالإنسانية لاتكتمل إلا بالحرية لأنها الأصل ولم يكن الرق إلا ظرفاً طارئاً علي الإنسان في ظروف طارئة في التاريخ البشري في مرحلة من المراحل، فالإنسان يولد حراً، ولعلنا نلحظ هنا أن الأمة أو الجارية في تلك الظروف كانت إذا ولدت من صاحبها فإنه يولد حراً منسوباً إلي أبيه وله جميع الحقوق وعليه جميع الواجبات التي لأخيه المولود من حرة، بل إن ولد الجارية كان له أن يتولي الخلافة علي الدولة الإسلامية بل كان هذا المولود يحرر أمه وينقل نظام التعامل معها فلا تعود جارية بعد الولادة كما كانت من قبل، وإنما تعد أم ولد لها نظام في التعامل مختلف، وهذا المعني أكده عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- عندما أنب والي مصر عمرو بن العاص عندما ضرب ولده مواطنا مصريا فقال عمر لعمرو متي استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً. والقرآن والسنة مليئان بالأحاديث والآيات التي تعد العبودية ظرفا طارئا نتيجة لنظم اجتماعية وسياسية كانت تفرض المعاملة بالمثل في الحروب التي لم يكن لها ضابط في أزمنة غابرة سوي النهب والسلب والتوسع فلم يكن بإمكان المسلمين تنفيذ أوامر القرآن والسنة بتحرير العبيد تحريراً شاملا وعاما في الدولة الإسلامية، مادام العدو يسترق أبناء المسلمين وبناتهم، وإلا فقد كان الإسلام أحرص علي إزالة هذا الظرف الطارئ في حياة إنسان حر يقع أسيرا. وملحوظة ثانية في عقيدة الإسلام الأساسية أن طلاقة الإرادة الإلهية، الواسعة العامة المهيمنة لا تحجب الإرادة الإنسانية الحرة ولا دوره في الحياة، ولذلك يستحق الإنسان الثواب أوالعقاب عن عدل الله سبحانه، فالإنسان بوصفه خليفة الله في الأرض لابد أن تترك له الحرية الكاملة لكي يحدد لنفسه بكامل حريته عقيدته ودوره في الحياة، وهو مسئول مسئولية كاملة عن اختياره لعقيدته ودوره وأعماله الإرادية. وبمقتضي هذه الحرية التي أرادها الله للإنسان الحر أن يرفع الله عن الإنسان ضغط أحد علي أحد إذا كان هو سبحانه لم يضغط علي أحد، فإذا لم يكن هناك جبر وإكراه من الله علي الإنسان فلا جبر أو إكراه من إنسان علي إنسان، يقول تعالي: "لا إكراه في الدين" (البقرة 652) وجعل مهمة الرسول التذكير والبلاغ والتعريف بالإسلام فقط دون جبر عليه قال تعالي:"فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر" (الغاشية 12) وقال سبحانه: "ما علي الرسول إلا البلاغ" (المائدة 201). وقد خلق الله الإنسان في أصل خلقته دون تأثر بأي من المؤثرات مهيأ بفطرته التي هي أصل الخلقة لاختيار أي من الطريقين الخير أو الشر علي قدم المساواة في التخيير، صحيح أن الإنسان يولد علي الفطرة النقية الصافية، ولكنه مستعد استعداداً متساوياً لأي اختيار يريده لنفسه بعد ذلك، إذا يقول تعالي: "ونفس وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها" (الشمس 7 - 8).. ويقول سبحانه: "وهديناه النجدين" (البلد: 01) أي الطريقين: الخير والشر. فالرسل ليسوا إلا معلمين للبشرية، وليسوا مكلفين بقمع إرادة الإنسان وحريته في اختيار طريقة حياته وعقيدته وليس عليهم إلا تبليغ ما كلفوا بتبليغه يقول تعالي: "ليس عليك هداهم" (البقرة: 272)، أي ليس عليك إجبارهم علي الهدي: "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" (الكهف: 92). والذين يقولون إن آية "لا إكراه في الدين" تلك الآية التي تمثل القاعدة الراسخة في تقرير الحرية الدينية التي سبق بها الإسلام كل الأنظمة السياسية في احترامها لحرية الإنسان في اختيار عقيدته الدينية.. لا يفهم القرآن ولا يعي مساقات الآيات والربط بينها والظروف التي نزلت فيها كل آية منها. وإذا كان يظن أن مثل قوله تعالي: "فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد" (التوبة: 5)، أو مثل قوله تعالي: "يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم" (التحريم 37)، قد نسخت "لا إكره في الدين"، فإن هذا الظن مبعثه قصور الفهم في أن سورة التوبة تمثل ما نسميه في عصرنا "قانون الطوارئ" وهو مؤقت مرتهن بابتداء العدو قتال المسلمين، فحينئذ وفي هذا الظرف الطارئ الذي بدأ فيه الأعداء القتال بعد أن نقضوا العهود، فإنه يؤذن للمسلمين أن يقاتلوا من اعتدي عليهم أو نقض العهد معهم، وقصور الفهم إنما ينشأ من النظرة التجزيئية لآيات القرآن وعزل سياقاتها بعضها عن بعض، فيظن أن كل آية عامة في كل الظروف ومجردة عن كل المناسبات فيقع في الخلط والخطأ، وإلا فالمبدأ العام عدم مصادرة الحريات وعدم قمع الناس وإجبارهم أو مقاتلتهم، كما قال تعالي: "وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين" (البقرة: 091) ويقول سبحانه: "فإن قاتلوكم فاقتلوهم" (البقرة: 291). 2- وإذا كان هذا هو المبدأ العام فيما يتعلق بحرية الاعتقاد، ومن ثم ما يلي الاعتقاد من حرية التفكير والتعبير والحرية في مجال السياسة وفي مجال الاقتصاد وفي الحياة الاجتماعية، فإن الإسلام يعطي الأهمية البالغة للسلام، حتي أن الإسلام مشتق من السلام، فالسلام قرين الحرية، وصنو الأمن سواء كان السلام الاجتماعي أو ما نسميه السلم الأهلي أو السلم الدولي، فكل أنواع السلام هي غاية الإسلام ومقصده من تحقيق الحرية، والإحسان المتداول بين الناس في المعاملات والسلم بينهم مرتبط بهذا الإطار "أنت حر ما لم تضر" والقاعدة الأولي في أصول الفقه الإسلامي "نفي الضرر" حيث أصلها حديث رسول الله- صلي الله عليه وسلم- بقوله: "لا ضرر ولا ضرار"، فالأمن والسلام هما ضمان الحرية، وبدونهما يفقد الناس هذه النعمة نعمة الأمن، وإذا فقد الإنسان أو فقد المجتمع نعمة الأمن فقد نعمة الحرية. وهذا المدخل أو هذه القاعدة "ارتباط السلام والحرية" كان طابع الحياة في الدولة الإسلامية الأولي وطيلة حياة الرسول- صلي الله عليه وسلم- سواء في فترته نبياً ورسولاً أو في فترته نبياً ورسولا وحاكماً. وإذا لاحظنا أنه عليه الصلاة والسلام أغض من شأن المرتد إذا ارتد عن الإسلام ولم يمثل خطراً علي الجماعة أو علي المجتمع أو دولة الإسلام يوم كتب صلح الحديبية، وأنه صلي الله عليه وسلم لم يكن يفعل ذلك بعد ذلك، فليس لأنه كان ضعيفاً يوم الحديبية وكان قوياً بعدها، فرسول الله- صلي الله عليه وسلم- لم يكن "ميكيافيلياً"، ولم يكن يخاف عند الضعف ويشتد عند القوة، ويوم أحد شاهد علي ذلك، ولكنه صلي الله عليه وسلم بوصفه حاكماً يقصد السلم الاجتماعي والسياسي لما رأي العابثين بالحرية الدينية، وأن المرتد كان عندما يرتد عن عقيدته الإسلامية يأوي إلي القوة السياسية الأخري، كما أن العلاقات الدولية كلها في ذلك الوقت وفيما بعده بقرون حتي ظهور الثورة الفرنسية كانت تقوم علي الأساس الديني، والتعصب الديني، فكان يعامل المرتد علي أنه رجل انحاز إلي معسكر الأعداء أو أحدث شرخاً في المجتمع من حيث السلم الاجتماعي، وفي ضوء ذلك يفهم قوله- صلي الله عليه وسلم- "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدي ثلاث" منها "التارك لدينه المفارق للجماعة"، فالتارك لدينه فعل عقدي، والمفارق للجماعة فعل سياسي، كانت عقوبة الردة حينئذ عقوبة سياسية كعقوبة أي جاسوس في عصرنا يهدد الأمن القومي، لأنه فارق جماعته الوطنية وانحاز إلي معسكر الأعداء ودولتهم وتجسس لهم. ولذلك كانت كل الأحاديث التي وردت في موضوع الردة تعني هذا الانشقاق السياسي أو "الفتنة" علي حد تعبير القرآن الكريم، ومن ثم ارتبط الحديث في القرآن في آية واحدة بين الفتنة والردة، حيث قال سبحانه "والفتنة أشد من القتل" أي أنها توجب القتل، ثم قال في نفس الآية "ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر" ولم يرتب عقوبة دنيوية بل رتب عقوبة أخروية، وهذا يعني في الفهم المستقل أن الردة ما لم تحدث فتنة فعقوبتها أخروية، فإذا ارتبطت بالفتنة كانت العقوبة بمقدار ما يحدث من فتنة حتي يصل العقاب إلي القتل لأن من يفعل ذلك يكون تاركاً لدينه مفارقاً للجماعة، وفي ضوء هذا البيان لبعض الأحاديث ببعض، وفي هذا السياق قال رسول الله- صلي الله عليه وسلم: "من بدل دينه فاقتلوه". وإذا وجد في عصرنا من يتبجحون بالردة، ولا يرعون مشاعر أهل العقائد ولا النظام العام الذي يقوم عليه المجتمع، فإن الحرية الدينية هنا يجب أن تقاس بمقياس السلم الاجتماعي، فالمرتد لا رده الله إذا كانت ردته مقصورة عليه ولا تمثل خطراً علي السلم الأهلي أو الأمن العام، فقد كان المنافقون في دولة الرسول- صلي الله عليه وسلم- يعيشون في أمان وهم معروفون بأسمائهم والقرآن يكشفهم، وكانت ألسنتهم تفضحهم، وقد قال الله تعالي: "ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول" (محمد: 03) وقد رفض صلي الله عليه وسلم أن يقتل المنافق "أبي بن سلول" لأنهم كانوا جماعة خاضعين ممتثلين للنظام العام لا خطر منهم علي الجماعة الوطنية، مع أنهم كما قال القرآن لرسول الله صلي الله عليه وسلم: "ولا تصل علي أحد منهم مات أبداً ولا تقم علي قبره، إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون" (التوبة 48) فلم يصل عليهم ولم يقم علي قبر أحد منهم ولكن لم يقتل أحداً منهم. أما إذا تجاوز المرتدون فارتدوا عن الإسلام، ثم راحوا يبغون الفتنة، ويشترون ضعاف الناس، أو يهاجمون العقائد في استغلال سيئ للحرية الدينية التي يكفلها الإسلام، ويطالبون بتكوين طوائف، ثم تخصيص مقاعد في المجالس النيابية أو المحلية ثم تخصيص وزراء، وتخصيص محافظين ورؤساء جامعات وادعاء الاضطهاد الديني ابتغاء نشر الفوضي التي نراها ضارية مخربة لمجتمعات حولنا حتي يصل الأمر بين الفرق والطوائف حد الهرج والمرج والقتل وانعدام الأمن بطبيعة الحال حتي يفر من يقدر علي الفرار ويهاجر ويترك بلاده للفوضي. لابد إذن من تحقيق الحرية والسلام كما يحتمهما الإسلام مرتبطين وحذار من الإنزلاق خاصة أنني أري رءوسا تدعو إلي المواطنة وفي نفس الوقت هي تفكر تفكيراً طائفياً.. ماذا تريد أكثر من الحرية والسلام إذا ربط بينهما العدل والشوري والمساواة. علماً بأن أي حرية تهدد السلام الاجتماعي ليست حرية، وإنما هي تتجاوز الحرية إلي الطائفية والتخريب وليس التخريب بأكثر من السماح لتيارات هدامة، بعضها منشق علي الأديان وبعضها ليس من الدين علي الإطلاق، وهي في سبيلها لتكوين طوائف تفتح باباً للتنازع والصراع الاجتماعي والتفكك السياسي والفكري، ومن ثم أري منع هذه التيارات؛ لأنها ضد السلام الاجتماعي وبالتالي تكون ضد الحرية أو تكون صورة بشعة لسوء استخدام الحرية لأنه لا يعلو علي السلام الاجتماعي.. ومن أراد أن يعتنق شيئاً من هذه التيارات ففي داخل نفسه متسع لذلك، ولا يجوز أن يخرج إلي الناس أو يطالب بكيان خاص أو طائفة تشجع غيره، لأن يسلك سبيل الطائفية أيضاً، ويكفينا ما أشرنا إليه من حال بعض المجتمعات المجاورة التي تعمها الفوضي ويعجز بعضها حتي عن تكوين حكومة؟ أنريد مصر مثل هذه المجتمعات؟.. أظن لا تكون حرية تلك التي تؤدي إلي هذه الفوضي.