هناك فروق هائلة بين الوزير السياسى والتكنوقراطى، الأول له رؤية وموقف ومصالح تتعارض مع التكنوقراطى، فالأخير لا يهتم إلا بعمله وتخصصه الضيق، هو مجرد ترس فى ماكينة الحكم لا يرى إلا نفسه أو التروس المجاورة له، لذلك فإنه مهما أجاد وتفانى فى العمل تظل رؤيته جزئية وقاصرة. وبرز دور الوزراء التكنوقراط فى السياسة المصرية منذ يوليو 1952، وكان من بينهم ضباط جيش وشرطة ومهندسون وأساتذة جامعات وأطباء، بعضهم تجاوز تخصصه الضيق وطور من قدراته السياسية وجمع الحسنيين، الوعى السياسى والكفاءة المهنية، وأكثرهم ظل حبيس تخصصه المهنى رافضاً للسياسة بمعنى الحوار الديمقراطى والتفاوض وتفعيل مشاركة المواطنين وتوظيف العلم والتخصص لصالح أغلبية الوطن، ومن الممكن تبرير استمرار الطلب على الوزراء التكنوقراط فى أيام عبدالناصر والسادات ومبارك، نتيجة تأميم السياسة ومحاولة نفى التعدد والاختلاف، لكن المفارقة أن تأتى أول وزارة فى الجمهورية الثانية بأغلبية من الوزراء التكنوقراط، ممن لا تتوافر لهم أى معارف وخبرات سياسية، ما قد ينعكس بالسلب على أداء الوزارة الجديدة، واستجابة الشارع لسياستها وقراراتها، فإذا كان لدينا شارع يعيش حالة ثورية وفائض فى التطلعات فمن الأولى أن يتعامل معه وزراء سياسيون، لديهم خبرات إدارية ومهنية وسياسية، ولديهم أيضاً انتماءات حزبية لقوى موجودة فى الشارع، مما يوفر قدراً من الدعم الشعبى لبرامجهم، ولعلاقتهم برئيس الجمهورية والبرلمان، الأمر الذى يخلق توازناً داخل السلطة. لكن قد يخشى من تحول الانتماء السياسى للوزراء إلى قيد يحد من حريتهم فى اتخاذ القرار، أو يجنح بهم للانحياز لصالح أحزابهم، والأخطر أن تتشكل الوزارة على أساس المحاصصة بين الأحزاب بعيداً عن اعتبارات الكفاءة والمهنية، وهى مشكلات حقيقية تعانى منها بعض الديمقراطيات العريقة، لكنها أقل كلفة سياسية واجتماعية من آفة الوزراء التكنوقراط، الذين يطبقون ما تعلموه فى الكتب واكتسبوه من خبرات فى تخصصهم بغض النظر عن رغبات الناس، فشخصية التكنوقراطى منغلقة، تعتز بما تعلمته إلى حد الغرور، خاصة عندما يتحصن وراء سلطة، لذلك يرفض مناقشة ما يصدره من قرارات أو مراجعتها، فهى من وجهة نظره تمثل الحقيقة العلمية التى لا يأتيها الباطل!! وفى ضوء الخبرة المصرية مع الوزراء التكنوقراط سنجد أنهم يتراجعون عن قراراتهم فقط عندما يأمرهم رئيس الجمهورية، الذى يتعاملون معه بمنطق بيروقراطى بحت، ولنتذكر علاقة مبارك وابنه جمال بالوزراء التكنوقراط. الكارثة الآن أن الرئيس مرسى يبدأ من حيث انتهى مبارك باختيار وزراء تكنوقراط ينفذون ما يريد، ولا يعارضون، الأمر الذى لا يبشر بتحول ديمقراطى حقيقى بل تثير شكوكاً مشروعة فى نوايا الرئيس وجماعة الإخوان، للأسباب التالية: 1- استبعاد فكرة ائتلاف القوى السياسية فى حكومة إنقاذ وطنى، ما يعنى أن الإخوان والتكنوقراط قادرون على مواجهة التركة الثقيلة من المشاكل التى خلفها مبارك. 2- انفراد الإخوان بالوزارة بطريقة غير مباشرة، لأن الوزراء التكنوقراط بطابعهم محافظون ومطيعون وسيلتزمون ببرنامج الرئيس من دون تغيير أو تعديل، أى أن الوزارة الجديدة ستكون للإخوان رغم محدودية تمثيلهم فى الوزارة، فإذا نجحت فإن الناتج سيصب فى مصلحة الرئيس وجماعته وإذا فشلت فمن السهل تماماً التنصل من مسئولية الإخوان عن الفشل. 3- المحافظة على تقليد تفضيل رؤساء مصر للوزراء التكنوقراط لكى يضمنوا ولاءهم وتبعيتهم، فالتكنوقراط كما يعلمنا التاريخ يتبعون من اختارهم وولاهم، ويجتهدون فى توظيف خبرتهم فى تنفيذ توجيهات الرئيس ورغباته حتى يضمنوا الاستمرار فى الوزارة. 4- استمرار ظاهرة النفاق الرخيص للرئيس من جانب الوزراء التكنوقراط، واستمرار أسلوب الإخوان فى ادعاء ما لا يفعلون، والتهرب من الالتزامات الأدبية والسياسية تجاه شركائهم فى الانتخابات الرئاسية، حيث سيدعى الإخوان أنهم التزموا بما وعدوا، فرئيس الوزراء وأغلبية الحكومة من خارج الإخوان!!