من المعانى الرائعة التى تأملتها كثيراً، ما من الله به على أهل مكة فى قوله تعالى: «فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَٰذَا الْبَيْتِ الَّذِى أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ»، وهذه العبارة لخصت ما أسهب فيه -بعد أكثر من ألف سنة- مؤرخ الحضارة، ويل ديورنت، فى المجلد الأول من كتابه «قصة الحضارة»، عندما أكد أن الحضارة لا تقوم إلا على ساقين: الوفرة والأمن. فالوفرة تمكن من التجويد ثم التخصص، والأمن يوفر بيئة للإبداع، أما الندرة والخوف فيصنعان البربرية. ومن المفارقات الملفتة أن مصر ليست مجتمع ندرة، ولم تعرف تجذراً لثقافة العنف كسمة مميزة، ورغم هذا فإن من يتأمل حالها يستشعر وجود يد قوية تفرضهما على شعبها. وقد كان طبيعياً أن تشيع ثقافة الندرة فى الخليج العربى، الذى لم يعرف الوفرة إلا منذ عقود محدودة، فالشكل الأكثر شهرة لثقافة الندرة هو نمط حياة البدو الرحل، الذين يتتبعون الكلأ، وهكذا كان عرب الجاهلية، ومع الندرة جاء العنف وأخلاق السلب والإغارة. لكن ما حدث بالفعل أن من عاشوا قروناً من «البداوة» تخلصوا سريعاً منها، بينما نحن نعيش على ضفة واحد من أكبر الأنهار فى العالم، وتتسرب إلى حياتنا بشكل متصاعد سمات ثقافة الندرة، والمثال الأشهر لذلك سلوكنا -كمصريين- فى البوفيهات المفتوحة، وهو سلوك عدوانى لا يكاد يستثنى منه إلا القليلون، وكأننا فى هذه اللحظة نعود إلى حالة بداوة -هى فى الحقيقة- ليست من مكونات ذاكرتنا الاجتماعية، لكنها حاضرة بشكل جلى فى واقعنا!! ويمكن أن تضاف شواهد كثيرة إلى المثال السابق، مثل «ثقافة الاحتفاظ بالكراكيب»، التى هى دليل جدير بالتأمل على إحساس عميق واسع الانتشار فى مجتمعنا، بأن المعروض أقل من المطلوب، وأن القادم «أسوأ»، ولا شىء يوفر تربة خصبة للعنف اللفظى والجسدى، كسلوك اجتماعى واسع الانتشار، أكثر من هذا الإحساس بغياب قدر من الاطمئنان إلى أن القادم ليس أسوأ! ومع غياب الوفرة والأمن -وبالقدر نفسه الإحساس بالوفرة والإحساس بالأمن- تصبح كفة البربرية أرجح من كفة الحضارة، وأخشى أن الفساد الوحشى، الذى شهدته مصر خلال حكم مبارك، ربما كان هدفه حرمان المصريين -بشكل مقصود- من شروط لازمة للوصول إلى حالة من الحضارة يستحقونها، ويملكون مؤهلات بنائها، وهذه ثمرة من ثمرات الفساد، أخطر بكثير من انتقال أموال إلى جيوب أشخاص بشكل غير قانونى. وقبل سنوات سأل أستاذ علوم سياسية غربى سؤالاً يستحق التفكير: إذا لم يكن إفقار شعوب معينة «قراراً» فكيف يمكن تفسير الحالة الاقتصادية لمواطنى ليبيا تحت حكم القذافى، ومواطنى الجزائر حتى الآن، وهما دولتان نفطيتان؟ ألا يعنى هذا -ولو احتمالاً- وجود قرار غير مكتوب بإفقار مواطنى حوض جغرافى، يمتد من سواحل الأطلسى للبحر الأحمر، دون استثناء الدول ذات الثروة النفطية؟ والفقر والخوف استدعيا العنف إلى الشارع المصرى، حتى أصبح «المصرى المسالم» فى محنة، بالمعنى الحرفى للكلمة. ولا يعنى هذا تفكيراً رومانسياً أو مغرقاً فى المثالية فى لحظة شديدة التوتر. بل محاولة لقرع أجراس الإنذار لننتبه إلى خطر تساهلنا معه أكثر مما ينبغى، واكتفينا فى تفسيره بالحنين إلى «أيام زمان الجميلة»، وناسها المؤدبين! ومما استنتجه المؤرخون من تواريخ أمم كثيرة، أن المجتمعات التى يشيع فيها خطاب البكاء على الماضى هى مجتمعات تتجه نحو «الاضمحلال»، وعندما تستولى هذه الحالة على أمة من الأمم، فإنها غالباً تصبح أكثر تعلقاً بكبار السن -لا لفضل يميزهم بل لأنهم أكبر سناً لا أكثر- وقد يصبح هذا التعلق معنوياً أو حقيقياً متعيناً، وعندئذ تصب جام غضبها ولعنتها -بحماس أحمق- على الأصغر سناً، أيضاً لأنهم أصغر سناً ولأنهم يريدون التغيير، وفى مثل هذه اللحظات لا يرى السواد الأعظم من هذه الأمم أن ما يحدث تغيير، بل يصفونه ب«التخريب». وعند هذه الجموع التى حطمها الخوف والجوع -أو حتى مجرد توقع الجوع- فإن الكبار يصبحون معنوياً «مصدرا للبركة»، وإذا كان التعلق بهم حقيقياً ومتعيناً فإنه يكون بوصفهم «الوحيدين القادرين» فعلياً على قتل العدوين المرعبين: الفقر والخوف! وفى حالات كثيرة يأخذ هذا التعلق شكل افتتان ب«البطل المنقذ»، ولا تكاد توجد أمة فقدت الثقة فى قدرتها كأمة على منع «الأسوأ» إلا وصنعت بيديها المستبد الجلاد، الذى لا يرى فيها إلا فريسة خائفة مذعورة تهرب -بمنتهى اللهفة- من الأوهام إلى فخ الصياد!! وفى هذه المتاهة فإن «المصرى المسالم» (وبخاصة ابن المدينة) يعانى الأمرين، فهو أولاً يعانى طغياناً للعنف الاجتماعى، لا تكاد مواجهته تشغل أحداً، بسبب الأزمة السياسية وتداعياتها الأمنية، ويعانى سلوكاً خشناً ملأ عالمه، قادماً من العشوائيات ومن عملية «الترييف» الرهيبة، وجعلت مدينة كالقاهرة تبدو كقرية يسكنها أكثر من عشرين مليوناً، وهم أتوا إليها ليفرضوا عليها أذواقهم وأعرافهم، كما هى دون تهذيب، وبالتالى أصبح هذا المصرى المسالم فى غربة مزدوجة: غربة فى حياة يومية أبطالها: فرد الخرطوش وسائقو التوك توك وحرافيش الأحياء الشعبية المتبجحون، وغربة إزاء أفق مستقبل سياسى، تتحكم فيه خيارات أمنية ومخاطر «حرب أهلية»، قد يكون احتمالها الواقعى بعيداً، لكن أشباحها حاضرة فى الخطاب السياسى، وبعض الأشباح تؤثر فى سلوكنا أكثر من كل المعطيات الموضوعية. ولله الأمر.