ما بين برنامج «المائة يوم» و«مشروع النهضة» دخل الحوار السياسى نفقاً من السجال حول الممكن وغير الممكن، واستهلك الجدل المزمن داخل «التأسيسية» وحولها جانباً لا يستهان به من طاقتنا النفسية والذهنية بينما جبهة الصراع الحقيقية على مستقبل هذا البلد توجد فى مكان آخر. فلا نهضة دون وعى بالشروط الاجتماعية والثقافية للنهوض التى هى «سنن كونية» لا تختلف من أمة إلى أخرى، فالأبعاد الدستورية والقانونية والسياسية تسهم فى توفير «المناخ» المواتى لبناء النهضة، أما المحتوى نفسه فلا ينبت إلا فى أرض خصبة وهى فى مصر أرض تم تجريفها بقسوة، بحيث لا ينفعنا الكلام عن «إخوانية» أو «أردوغانية» أو غيرهما من المصطلحات إلا كترف فى استعراض المعلومات وبناء الفروض المعلقة فى الهواء. ومن الكتب التى شعرت أن لدىّ حاجة حقيقية للرجوع إليها للبحث عن معالم أكثر وضوحاً لإجابة «سؤال النهضة»، المجلد الأول من موسوعة «قصة الحضارة» لويل ديورنت، حيث خصصه لمعالجة: كيف تنشأ الحضارة؟ وكيف تزدهر؟ وكيف تستمر؟ ومن القضايا التى استوقفتنى فى كلام ديورنت موضوع شديد الصلة بما تشهده مصر الآن، ومنذ تنحى مبارك، وهو إعادة التوازن المفقود إلى العلاقة بين المدينة والريف. يقول ديورنت: «إن الثقافة لترتبط بالزراعة كما ترتبط المدنية بالمدينة، إن المدنية فى وجه من وجوهها هى رقة المعاملة، ورقة المعاملة هى ذلك الضرب من السلوك المهذب الذى هو فى رأى أهل المدن -وهم الذين صاغوا حكمة المدنية- من خصائص المدينة وحدها»، ويمكن أن يقارن القارئ هذا بما يجتاح شوارعنا من عنف حقيقى ومعنوى، لفظى وجسدى. ويختم ديورنت استنتاجه المهم بقوله: «نعم إن المدنية تبدأ فى كوخ الفلاح، لكنها لا تزدهر إلا فى المدن». وكلام ديورنت فى الحقيقة يضع ملحاً على الجرح فى بلد اجتاح فيه الريف كل مظاهر المدنية، وأصبح هناك ترييف للسلوك والمزاج والثقافة، وأصبح هناك خطاب عام -سياسى وثقافى ودينى- أشبه بكلام المصاطب، وأصبح هناك خشونة تصل إلى حد الانفلات الاجتماعى الذى هو أخطر ألف مرة من الانفلات الأمنى، لأنه فى الحقيقة ليس سلوكاً إجرامياً لقلة خارجة عن التيار العام، بل سلوك إرادى يأتيه أصحابه بوعى تام على أنه الطبيعى والعادى، وتلك الكارثة. فالخيارات الثقافية والاجتماعية التى سادت الشارع المصرى عقب الثورة فى ردة جامحة عن كثير مما أنجزته المدينية فى السلوك وفى الثقافة، وهناك جانب لا يستهان به مما يوضع تحت مظلة فضفاضة اسمها «الانفلات الأمنى»، هو فى الحقيقة انفلات اجتماعى يهدد حق «ابن المدينة المسالم» فى أن يتحرك بأمن وحرية ويهدد فضاء المشترك العام، وأهون الشر من هذا الهجوم على المشترك العام، الأرصفة التى يحتلها الباعة الجائلون وصولاً إلى قطع الطرق و... والقادم ما زال فى رحم الغيب! ويبدد ويل ديورنت وهماً كبيراً يعشش غالباً فى عقول الشعوب ذات التاريخ العريق -مثلنا- إذ يشيع فى الخطاب السائد فيها دائماً أنها قادرة على صنع النهضة لأنها فعلت ذلك سابقاً، وكأنه الشرط الرئيس أو الوحيد، يقول ديورنت: «ليس الجنس العظيم هو من يصنع المدنية بل المدنية العظيمة هى التى تخلق الشعب»، ثم يضيف: «لأن الظروف الجغرافية والاقتصادية تخلق ثقافته، والثقافة تخلق النمط الذى يصاغ عليه. ليست المدنية البريطانية وليدة الرجل الإنجليزى ولكنه هو صنيعتها، فإذا ما رأيته يحملها معه أينما ذهب ويرتدى حُلة العشاء وهو فى «تمبكتو»؛ فليس معنى ذلك أنه يخلق مدنيته هناك خلقاً جديداً، بل معناه أنه يبين حتى فى الأصقاع النائية مدى سلطانها على نفسه. فلو تهيأت لجنس بشرى آخر نفس الظروف المادية، ألفيت النتائج نفسها تتولد عنها». وإذا كان ذلك كذلك، أو على طريقة الرائع نجيب الريحانى وهو يتحدث عن «الشىء»، و«الشىء لوزم الشىء»، هل تصبح هناك حاجة توجبها الرغبة فى النهضة لظهور عمل عام منظم سياسى، اجتماعى، ثقافى «دفاعاً عن المدينة»؟. ولا أجد ختاماً أفضل من تكرار قول ويل ديورنت «إن المدنية تبدأ فى كوخ الفلاح، لكنها لا تزدهر إلا فى المدن».