قلت أمس إن الدكتور جلال أمين ألقى الضوء على طبيعة السلطة التى سقطت إدارة المرحلة الثورية الانتقالية فى يدها بينما هى تنتمى عضويا إلى نظام الرئيس المخلوع بكل تعبيراته وانحيازاته الطبقية، واعتبرت أن ذلك يمثل ضغطا على الثورة من أعلى، وأن هناك ضغطا أخطر وأهم، يأتى من أسفل، أى من مجمل التركيبة المجتمعية والطبقية التى خلفتها عقود حكم الثنائى أنور السادات وحسنى مبارك، وأشرت إلى أن أبرز ما يميز هذه التركيبة، إضافة إلى الطبقة المتوحشة التى رعاها وسمنها النظام المدحور وأجلسها فوق قمة هرم المجتمع والدولة، هو حال الإفقار الهائل والبؤس المتنوع (مادى وفكرى وروحى وأخلاقى) والمتحول إلى نمط حياة شامل وعابر لكل الطبقات تقريبا وتجسد فى حال «ترييف» متفشٍ وواسع النطاق تآكلت تحت وطأته أغلب الحدود والفروق الفكرية (وربما الجغرافية أيضا) بين الريف والحضر. لقد أنهيت سطور أمس بتساؤل عما يعنيه هذا «الترييف» وذاك البؤس؟ وما علاقتهما بقدرة ثورة 25 يناير على النفاذ والمرور بقيمها الراقية وأهدافها النبيلة فى تلافيف وتعقيدات مجتمعنا الراهن؟ وللإجابة عن هذا السؤال لا بد أولا من لفت الانتباه إلى ملاحظة بالغة الأهمية ربما تكون محجوبة أو مشوشا عليها بسبب لوحة الضجيج والعشوائية الهائلة التى نغوص فيها يوما بعد يوم منذ نهاية المشهد الافتتاحى الباهر للثورة حتى الآن، تلك الملاحظة خلاصتها أن هذه الثورة ذات طابع حضرى (من الحَضَر) ومدينية بامتياز على ما تدل شواهد وإشارات كثيرة أقربها إلى النظر أن الأغلبية الساحقة من فاعلياتها وأحداثها جرت فى ساحات وميادين التحرير فى المدن والحواضر. ويتفرع عن هذه الملاحظة حقيقتان مركزيتان وساطعتان سطوع الشمس، أولاهما أنها ثورة فتية وشابة هيمنت عليها الأجيال الجديدة بكل عنفوان غضبها وأحلامها وتطلعاتها، فضلا عن حداثة وعصرية أدواتها (إنترنت وخلافه)، وأما الحقيقة الثانية فهى تنويعة وتشكيلة القوى والشرائح الطبقية التى فجرتها وأبقت على جذوتها مشتعلة، تلك التنويعة تقع كلها فى المساحة الاجتماعية الشاسعة الممتدة من الطلاب وشباب الطبقات المتوسطة (بشرائحها الدنيا والعليا) وحتى العمال وكتل المهمشين.. إلخ. هذا الطابع المدينى الشبابى عكس نفسه ببلاغة فى الأهداف والشعارات الرئيسية التى شق بها الثوار حناجرهم «عيش، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية».. هنا بالظبط يمكن رؤية خط المواجهة ونستطيع أن نتحسس نقطة الصدام والضغط الذى تتعرض له الثورة من أسفل أى من الواقع اجتماعى وطبقى معقد من حقب النهب والسحق الطويلة، أبرز ملامحه ليس الفقر المادى فحسب وإنما إشاعة منظومة بؤس معنوى رهيبة اعتمدت أساسا على منهجية ترييف جغرافية وعقل المجتمع كله، أى عدم الاكتفاء بالحفاظ على فقر الريف وحرمانه من أسباب التقدم وإنما تَعمد توسيع نطاق تخلفه المادى والفكرى بحيث يجتاح المدن كذلك فلا تصبح هناك فروقات كبيرة بين سمات ومنغصات الحياة فى الريف والحضر. وإذا كانت المظاهر المادية للبؤس الريفى المعمم على المدن صارت أسبابها الاقتصادية ومظاهرها الاجتماعية واضحة ومشهورة (تفاقم النزوح للمدن بحثا عن رزق شحيح وفرصة عمل رث، وتضخم العشوائيات.. إلخ)، فإن المظاهر الفكرية والثقافية لهذا البؤس لا تقع رغم خطورتها تحت ضوء يكفى لإظهار معالمها الفاقعة التى منها على سبيل المثال لا الحصر، مد حبال الصبر الطويلة للظلم، والنفور من التمرد، والمبالغة فى تمجيد السلطة والاستعداد للتجاوب مع دعاياتها والشعارات التى تبثها أبواقها، خصوصا شعارات من نوع الاستقرار وخلافه، وأخيرا مجاراة أى محاولة لاستخدام الدين فى تبرير وتسويغ المواقف والمسلكيات الاجتماعية والسياسية. هل رأيت منطقة الصدام بين شعارات الثورة وأحلام الثوار وبين البؤس الذى زرع فى جسد مجتمعنا؟ هل أدركت صعوبة المعركة؟ ومع ذلك.. النصر ممكن جدا، بل هو الممكن الوحيد.