من الملاحظات العبقرية للمفكر الدكتور عبدالوهاب المسيرى فى كتابه «الصهيونية والنازية ونهاية التاريخ» أن عملية إبادة اليهود -وغيرهم من الأقليات فى ألمانيا كالغجر والسلاف والشيوعيين والعرب- كانت تتم من خلال مؤسسات تحمل أسماء محايدة لا يدل اسمها على دورها، وعلق متهكماً على اسم إحداها بأنه محايد لدرجة أنه يصلح اسماً لنوع من الدواء كالمقويات! وبعض المهام البشعة يساهم فى تمريرها أن تكون اللافتة المرفوعة عليها محايدة أو حتى تحمل دلالات إيجابية، ومن نماذج هذه اللافتات الخادعة لعبة طالما لعبناها صغاراً فى المدرسة الابتدائية هى «الكراسى الموسيقية» وهى لعبة يدور فيها عدد من التلاميذ حول عدد من الكراسى يقل عددها عن عدد الطلاب ب«واحد» ما يعنى أن أحدنا كان حتما سيفشل فى الحصول على مقعد عندما يتوقف المعلم عن التصفيق ونتسابق للجلوس. وهذه اللعبة التى تبدو بريئة هى ضمن ما تسميه العلوم الإنسانية الحديثة «التربية الخفية»، وهذا النمط من التربية يزرع فى نفوس من يتعرضون له دون أن يشعروا سمات نفسية معينة تؤثر فى رؤيتهم لأنفسهم وللآخرين وللحياة كلها بأسلوب «الرشح» بهدوء دون وعظ أو تلقين، وغالباً تكون هذه السمات من الرسوخ بحيث تتحكم فى السلوك أكثر من الاعتبارات الأخلاقية والأحكام الشرعية والحسابات المنطقية. و«التربية الخفية» تبذر فى المجتمعات بذرة «ثقافة الإنكار» التى تجعل الإنسان يعجز عن الاعتراف بأى حقيقة يمكن أن تؤلمه ويظل يردد أكاذيب تصنع له إحساساً كاذباً بالرضا والاتساق والتوازن الوهمى، والقرآن الكريم يخبرنا بوجود من تسيطر عليهم ثقافة الإنكار حتى يرفضوا الاهتداء إلى الحقيقة إذا عجزوا عن نفيها، قال تعالى: «وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء»، ولو أنصفوا لقالوا: إن كان هذا الحق من عندك فاهدنا إليه. وما تغرسه لعبة «الكراسى الموسيقية» فى نفوس لاعبيها هو أن «المعروض» دائما أقل من «المطلوب» وبالتالى فإن عليك أن تتسلح بأكبر قدر ممكن من العدوانية لتحصل على ما تحتاج إليه لا لكى تحصل على ما تطمح إليه، وهذه السمة فى التفكير والسلوك تسمى «ثقافة الندرة» وثقافة الندرة هى ثقافة البداوة والصراع على الكلأ والماء، وكلاهما من الطبيعى أن يكون شحيحاً فى الصحراء حيث حياة البداوة. ورغم الإقرار بأن المجتمع المصرى يشهد منذ عقود اختلالاً شديداً فى العدالة الاجتماعية فإن هذا يظل خللاً فى التوزيع، ولا يعنى أن ثقافتنا هى ثقافة ندرة، ولكى يتم غرس ثقافة الندرة فى مجتمع كالمجتمع المصرى لا يعيش على تتبع الكلأ بل يملك نهراً وأرضاً زراعية منحته إحساساً بالوفرة يتم تعريض المواطن المصرى لمواقف تربوية مصممة سلفاً تعزز فيه القناعة بأن «المعروض» أقل من «المطلوب»، وبالتالى تكمل طوابير «السولار والبنزين والبوتاجاز والخبز و.... » عملية التربية الخفية للمصريين على الندرة. ومن النماذج المثيرة للتأمل لهذه الثقافة سلوك المصريين أغنياء وفقراء متعلمين وأميين أمام البوفيهات المفتوحة حيث يتسابقون بشكل -غالباً همجى- لاقتسام غنيمة فى حالات كثيرة تكون أكثر من كافية للمتسابقين على اقتسامها، لكن الإحساس العميق بالندرة يجعل المتقاتلين يكذبون حتى حواسهم! وكثير من المواطنين المصريين فى المسار السياسى الذى أعقب ثورة الخامس والعشرين من يناير يذهبون إلى الصندوق محملين بأعباء ضغوط نفسية هائلة، وهذه الضغوط لا تجعل المعيار الرئيسى للاختيار مرهوناً بالأفضلية أو تميز البرنامج السياسى للمرشح، بل تجعل الخوف من المجهول الاقتصادى والأمنى رعباً يدفعهم لاختيار مرشحى الاستقرار والاستمرار وتقنين أوضاع البناء فى الأراضى الزراعية وتثبيت العمالة المؤقتة و... إن الأثر السياسى لمؤثر مثل «لعبة الكراسى الموسيقية» إحدى أهم وسائل إعادة إنتاج الخوف ومن ثم البحث عن الرئيس الأب الذى يؤكد دائماً اهتمامه بمحدودى الدخل والفقراء دون أن يحاول القضاء على الفقر أو الاعتراف بأنه أحد المسئولين عن فقر الفقراء، وللسبب نفسه يبحث هؤلاء عن الحل الفردى لمشكلة كل منهم الشخصية ويرى كل منهم أن العالم ينتهى عند حدود جلده، فلا معنى لوطن أكثر حرية أو مواطن أكثر كرامة أو اقتصاد أكثر كفاءة، وهؤلاء ما زالوا يبحثون عن نائب الخدمات والمرشح المستعد لتوزيع الزيت والأرز والسكر أو حتى بيع فرص العمل المتميزة ذات الرواتب الكبيرة للعاطل الذى يستطيع -بأى وسيلة- أن يشترى لنفسه كرسياً فى «لعبة الكراسى الموسيقية»! وأمام صندوق الانتخابات الرئاسية يمسك الخوف قلم الناخب ليختار المرشح الذى يتوهم أنه يضمن له النجاة من سيف «الندرة»!