من الأشياء التي تثلج الصدور في فعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ورضي الله عنهم، وتكاد تختفي من واقعنا المعاصر، هو ما عرف "بقسمة الأموال مع الله"، فتجد الصحابي كل فترة، يقسم ماله مع الله، فهذا يقسم مرة، وذاك مرتين، وآخر ثلاثة وهكذا، فنجد أبو بكر الصديق رضي الله عنه يضع ماله كله بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ونجد عثمان بن عفان رضي الله عنه إمام من أئمة المسلمين في الإنفاق والبذل يشتري بئر روميه بخمسة وثلاثين ألف درهم ويوسع المسجد النبوي بشرائه للبقعة التي بجواره بخمسة وعشرين ألف درهم، ويقوم رضي الله عنه بتجهيز جيش العسرة حتى لم يتركه بحاجة إلى خطام أو عقال، وفي عام قحط المطر يجعل قافلته الكبيرة جداً والآتية من الشام صدقة على فقراء المسلمين، وكثير من صور البذل واقتسام الأموال مع الله عند سيدنا عثمان رضي الله عنه، ونجد كذلك اقتسام الأموال مع الله عند عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، كما نجد أيضاً الحسن بن علي رضي الله عنهما وهو ممن أنعم الله عليهم بتلك النعمة، والذي قاسم الله ماله ثلاث مرات، حتى إنه يعطي الخف ويمسك النعل. كما نجد زين العابدين علي بن الحسين بن علي رضي الله عنهم قد قاسم الله تعالى ماله مرتين، ليسير بذلك على درب الصحابة الأبرار الذين قاسموا مالهم مع الله، والأمثلة على ذلك كثيرة وممتعة. فالتوفيق للإنفاق في سبيل الله رزق من الله يمن به على من يشاء من عباده، والتربية على البذل والإنفاق لا تأتي إلا بالممارسة العملية الإنفاقية للمربين في كافة الميادين، وهو نوع من التربية بحاجة إلى التفعيل داخل المجتمع الإسلامي، ليعود لدينا هذا الجيل المنفق الباذل الذي لا يخشي بنفقته الفقر بل يتاجر مع الله بإنفاقه في سبيل الله، رجاءً لرحمته سبحانه، وطمعاً في جنته جل وعلا. إن قسمة المال مع الله خصلة فريدة ندر أن نجدها الآن في زماننا، إن لم تكن طمست من قاموس العمل الخيري الإسلامي، نسأل الله إحياء تلك الخصلة في نفوس المسلمين. لكن المرء يعجب كثيراً عندما يجد سلوك الإنفاق السخي الذي يصل لدرجة اقتسام المال مع الفقراء موجود عند غير المسلمين فحين قراءة ما فعله الملياردير الأمريكي "وارن بافيت" ومقارنته بالسلوك الإنفاقي لمليارديرات المسلمين نجد البون شاسعاً والألم عميق، فهذا الملياردير الذي لا يزال يقطن نفس المنزل الذي اشتراه عندما تزوج منذ أكثر من خمسين عاماً، ويقود سيارته بنفسه ولا يمتلك هاتفاً محمولاً، ولا تراه محاطاً بحراس شخصيين، قرر فجأة التبرع ب(31) مليار دولار من ثروته للأعمال الخيرية وهو ما يقارب نصف ثروته في أضخم عملية تبرع لأعمال خيرية يشهدها التاريخ البشري الحديث، وليس هذا فقط، بل إنه تبرع بالمبلغ لمؤسسة (بيل وميليندا جيتس) الخيرية، ولم يلجأ لإنشاء منظمة خيرية خاصة تخلد اسمه، كما يفعل أقرانه من أمثال جيتس وروكفلر وفورد. والملفت أنه على الرغم من اقتسام هذا الثري لثروته مع الفقراء إلا أن ثروته في ازدياد شديد. فهل يغار أحد أثرياء المسلمين من هذا الثري الأمريكي الذي اقتسم ماله مع الفقراء ويقوم الثري المسلم باقتسام ماله مع الله ليحيي بذلك سيرة السلف الصالح ويكسب في الدارين ويدخل السرور علي المسلمين ويعلي من شأن الأمة، بل وستكون ثروته في ازدياد بإذن الله؟. وهل يستطيع أحد ممن رزقهم الله رزقاً حسناً أن يقدم على خطوة الاقتسام هذه ويقتسم ماله مع الله ليجد لذة جديدة طعمها الصحابة رضوان الله عليهم وعرفوا قدرها فداوموا على تذوقها كلما رزقهم الله وأنعم عليهم بالخيرات؟.