شعار العدل والمساواة في النظام الرأسمالي - مركزي أو محيطي - يبقي شعارا أجوفاً مادامت هناك إمكانية لتنمية الثروات علي حساب الآخرين أفرادا وطبقات. فبسبب التركيز للثروة يملك الأغنياء الأدوات الجبارة لتشكيل الأفكار وترويج الأوهام وتزييف الوعي لاختزال مفهوم العدل والمساواة في الشكل القانوني لهما ، أي المساواة أمام القانون الذي صنعه الأغنياء في برلماناتهم والتي أطلقتها الثورة الفرنسية 1789 كنقيض للامتيازات التي تمتعت بها طبقة النبلاء الإقطاعيين والكنيسة قبل الثورة. وكان ذلك تقدما نسبيا لكن الامتيازات - بسبب نظام الاستغلال الرأسمالي الذي حل محل نظام الاستغلال الاقطاعي - انتقلت في رداء جديد إلي الرأسمالية. وفرغ الشعار من مضمونه. وتصبح الحرية والمساواة هي حرية العمال أن يموتوا جوعا ويتشرد أبناؤهم وتتم المساواة بينهم في البؤس والظلم الواقع عليهم وعلي ذويهم من قبل رأس المال والرأسمالية. وفي بلادنا ينشر الفكر الديني السلفي والسياسي خرافة أن الناس جميعا فقراء وأغنياء يتساوون في "الأرزاق" وإن لم يعوا بذلك. فمن سُلب منه المال قد يجده في الصحة أو راحة البال. وأن المال يجلب الهم فيستريح الفقراء من هذا الهم. وقد يحسد الغني الفقير علي راحة البال و"الروقان" من هم المال ، حتي علي الفقر لا ينجون من حسدِ. وأن العدل الكامل لن يتحقق إلا يوم القيامة. فانتظروا يا فقراء عدل الله في الآخرة. توزيع الخيرات والفقر حالة اجتماعية وناتج توزيع للخيرات والثروات مهما كانت ضئيلة ، فلو كانت الموارد نادرة نسبيا فإن توزيعها بما يحقق إشباعا محدودا يمنع استيلاء الأقلية عليها فىُنتج فقر الآخرين. إذن تحقيق الإشباع المحدود للجميع ىُلغي الفقر عمليا. وفي هذه الحالة - حالة الموارد المحدودة - لا يقسم الفقر علي الناس كما تقول الدعاية البرجوازية لكن الذي يقسم هو الثروة والخيرات. ويعتمد الاشتراكيون الماركسيون في أدبياتهم وشعاراتهم السياسية مبدأ المساواة مبدأ أساسيا لهم وغاية يعملون علي تحقيقها ، ولا تناظرهم قوة سياسية أخري أو تنافسهم علي هذا الشعار. ولكن كيف تكون المساواة وقد تكون البلاد فقيرة؟ وهل هي "اشتراكية الفقر" كما ادعي خصومهم الذين يشوهون مبدأهم للإبقاء علي اللامساواة في ظل الرأسمالية ؟ تنقسم الدول والمجتمعات إلي مجتمعات تتسم بندرة الموارد النسبية ، وبما هي كذلك فإن الأغلبية الساحقة من شعب هذا البلد يعيش في فقر أو ما هو دونه ، وتصبح الأقلية القليلة جدا هي القطاع الوحيد الضئيل المستفيد من الخيرات المحدودة في هذا البلد. ويصبح إذن مجيئ سلطة تمثل الأغلبية الكاسحة من السكان تحقق إشباعا محدودا للحاجات وللجميع أمرا مقبولا وعادلا. هذه السلطة تدير الموارد المحدودة لهذا البلد وتقتسم نتاجها بالتساوي بين الجميع حسب الجهد والعمل الذي تبذله طبقة ما أو جماعة ومساهمتها في إنتاج الخيرات. وبذلك يتحقق مبدأ المساواة ، وتلك هي مرحلة الاشتراكية (لكل حسب عمله) أما إذا كان المجتمع يتمتع بوفرة نسبية (وكله نسبي) فإن العدالة والمساواة تتحقق بأن يوزع الناتج القومي والخيرات المنتجة بواسطة طبقات المجتمع علي أساس الإشباع المتوسط والمتقارب للحاجات وللجميع أيضاً. قد تتميز بعض الشرائح الطبقية بقدر من المزايا لكنها ليست المزايا التي تحجب عن الآخرين قدرا مناسبا ومشبعا من خيرات المجتمع. وهنا "يسعد" الجميع في مستوي مناسب من السعادة. وهنا يتجلي مبدأ المساواة في التطبيق العملي الاجتماعي. إذن فالندرة النسبية والوفرة النسبية تجعلان من "المساواة" أمرا لازما في الحالين بل ومقبولا قبولا عاما. فلأنه في فرض الندرة تتحقق العدالة في التوزيع للندرة بحيث يكاد يختفي واقع الندرة ذاته من فرط قبول الناس للمساواة. أما في الوفرة النسبية فيتحقق "القبول" حتي من جانب من يفترض أنهم "يمتازون" لكن لا يبتعدون كثيرا عن باقي شرائح المجتمع. نماذج أخري نستنتج إذن أنه إذا كانت الندرة واسعة فالمساواة هي حد الكفاف. نضمن الحياة للجميع. وإذا كانت الوفرة واسعة فالإشباع الكامل الواسع بلا تفرقة ترضي الجميع أيضاً. المهم درجة من المساواة ترضي الشعوب في أغلبها وتقدم حلا للندرة والوفرة (عيداروس القصير - الاشتراكية في السياسة والتاريخ). وفي ثقافتنا العامة يضرب المثال دائما بعدل عمر. وهو نموذج عظيم وجليل ومضيء في تاريخ الحكم الموصوف بالإسلامي. الا انه نموذج استثنائي لأن العدالة نظام مجتمع وليست هبة من حاكم عادل يرعي حقوق الله. وتعلو أصوات الوعاظ من علي المنابر ويزهو المعممون والسلفيون من كل نوع بمثال مضي من أكثر من أربعة عشر قرنا ولم يتكرر. في حين أن علي الأرض نماذج قائمة أو معاصرة لا يتحدثون عنها ولم تدرج في ثقافة شعبنا الفقير إجمالا وأجرائه علي وجه الخصوص. فهناك عدل لينين في الاتحاد السوفييتي السابق وماوتسي تونج في الصين الشعبية وهوشي منه في فيتنام وكاسترو وجيفارا في كوبا وشافيز في فنزويلا ولولادي سيلفا في البرازيل وغيرهم. إلا أن الثقافة الرأسمالية السائدة لا تقدم هذه النماذج الحية حتي لا تصبو إليها الجماهير فتبحث عن أسسها النظرية وتطبيقاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية. مما يوجب التعرف علي الخبرات غير الإسلامية (العمرية حصريا) في العدل والمساواة وتكافؤ الفرص. عدل نظم تخاف شعوبها و"جنتهم" رضاهم ، لا عدل أفراد يخافون الله. فهل تستطيع أجهزة إنتاج وتوزيع الثقافة أن تمد الشعب المصري بثقافة متنوعة فيها من الصدق ما يفوق الزيف وتستغني عن "المعلبات" الثقافية المحفوظة بثقافة حية طازجة؟