كلما هل طيف أمير أو أميرة من زمن ولي وانتهي علي أرض المحروسة, نجد حماسا للاحتفاء من قبل نخبة سياسية وإعلامية. احتفاء ينطوي في ظاهره علي حنين لحقب ملكية سابقة لم يعشها كثير منهم. ولو قدر لهم العيش لما حصل معظمهم علي جزء يسير من الذي حصلوا عليه في الحقب التي تلتها. وقد كشفت هذه المسألة عن شيئين. الأول, التباس في فهم الدور الذي قام به الأمراء وآباؤهم في خدمة مصالح المجتمع. والثاني, وجود تناقض جوهري بين المحتفي بهم والمعني السياسي والاجتماعي الذي يروج له المحتفلون. فالمطالبة بالتغيير والعدل والمساواة تتحقق بإدخال تعديلات علي الحاضر والنظر إلي المستقبل, وليس بإعادة إنتاج ذكريات خيالية والترويج لها باعتبارها خالية تماما من الشوائب. ما حدث خلال الأيام الماضية مع الشاهبانو فرح ديبا في القاهرة, مفهوم في إطار الإعلان عن الترجمة العربية لكتابها الجديد وتسويقه عبر إحدي دور النشر العريقة, لكنه مغلوط في ثلاث نواح رئيسية. الأولي: الإيحاء بدور فرح ديبا الايجابي إبان حكم شاه ايران والتركيز علي مقتطفات من كتابها تؤكد هذا المضمون. والترحم علي أيام الشاه, وكأن الثورة التي قامت عليه لم تكن لها أهداف اجتماعية أو ناقمة علي فترة حكمه, ولم تحصل بالفعل علي دعم قطاعات مختلفة في هذا المجال. وفي غمرة الحنين للملكية, علي حساب الجمهورية, سقطت بعض الأقنعة الاجتماعية, التي تبين تعمد الخلط للدفاع عن مصالح آنية, بصرف النظر عن مواءمتها للمجتمع المصري في الوقت الحاضر, وما يعيشه من مشكلات بحاجة إلي ابتداع حلول ناجحة وعدم الاستغراق في دغدغة مشاعر زائفة. الثانية: التوظيف السياسي الخاطيء, فمن يدقق النظر سيجد أن غالبية من رحبوا بالشاهبانو هم من مؤيدي تنقية الأجواء مع ايران, بينما يحمل الترحيب( غير الرسمي) بها رفضا غير مباشر لتطوير العلاقات مع طهران. وقد دأب نفر من هؤلاء علي طلب تجاوز المطبات التي تعكر صفو العلاقات. لكن كيف تستقيم المطالبة بإزالة جدارية أو تغيير اسم شارع في طهران مع الاحتفاء الشعبي بعدو سابق( مفترض) للنظام الايراني؟. الثالثة: محاولة إضفاء بريق علي الأشكال الملكية, سواء كانت مصرية أو غير مصرية, بحسبانها أشياء جميلة وصحيحة وحققت مصالح فئات كبيرة في المجتمع وتجاهل المآسي التي كانت منتشرة في أوساط متفاوتة. لدرجة أن هناك من تفاخر بأنه مر من أمام الفندق الذي نزلت فيه الشاهبانو, أو شرب قهوة في حضرة الملك السابق( فلان) أو أجري حوارا مع الأميرة( فلانة). وهذا التفاخر الشكلي, إذا كان يصب في خانة التعاطف مع الماضي, فهو أيضا يشير إلي النقمة علي الحاضر ولي أعناق المستقبل وجره إلي طريق غامض. لأنه ببساطة يحمل انقلابا علي ثوابت جمهورية راسخة. ويصب في مربع توجهات محلية لديها مشروعات سياسية. كما أنه لا يخلو من خدمة جليلة لجهات اقليمية يهمها الابقاء علي مشاعر ايجابية نحو الأنظمة الملكية عموما. من هنا, تأتي خطورة الانجرار وراء القصص التي يتم حبكها لتوصيل رسائل خاطئة. ويلعب البعد الشخصي دورا مهما في نشرها علي نطاق واسع. وتبدو الحكايات جزءا من معزوفة جري تلحينها باتقان لإعطاء انطباعات محابية, وقبولها من جانب أوساط شعبية متعددة. تصلح في النهاية لتبرير حنين المتطوعين للدفاع عن بعض وجوه الملكية, كمحاولة للتخفيف من حدة التباعد بين الواقع والأمنيات. وإيجاد مساحة مشتركة يمكن البناء عليها لطرق أبواب الماضي بكل ما تخفيه من قتامة وصخب. اللافت للنظر أن عددا كبيرا ممن يقفون وراء هوجة الحنين للملكية, استفادوا جيدا من المجانية التي جاءت بها ثورة يوليو. وتعلموا وعملوا ونجحوا وصعدوا بعدها. حتي إن الاعلام الذي رفعهم إلي مراتب عالية لم يعد قاصرا علي طبقة بعينها, بل أصبح مفتوحا أمام الجميع, وفقا لآليات العرض والطلب وشروط السوق والمنافسة. وأعتقد أن هذا المناخ لم يكن موجودا من قبل, وإن وجد كان حكرا علي فئات تمتلك حدا معقولا من الثروة, وفرت لها سبل اقتحام هذا الفضاء بصورة تلقائية. أدي ظهور هذه النوعية إلي عقد قران جديد بين الثروة والاعلام بدلا من السلطة, حيث أضحي الاعلام سلطة نافذة في حد ذاته. ولا اعتراض علي هذا الزواج شريطة حدوثه في الحلال ومراعاة قيم ومباديء ومصالح المجتمع, وكل الاعتراض علي إتمامه في الحرام ولأغراض خفية. كما أفضي النفاق المتبادل بين عدد من الاعلاميين ورجال اقتصاد إلي نسج شبكة قوية من العلاقات والمنافع. تطورت معظم تفاصيلها في الظلام. ولا أبالغ إذا قلت أن هذه الشبكة المعقدة نجحت في الإمساك بزمام أمور كثيرة وفرضت أجندتها في قضايا مختلفة. وتكمن الخطورة في خداع المشاهدين والقراء وتسويق أفكار رديئة, علي حساب أفكار سليمة تخدم المجتمع وسبل تطوره. وشارك هؤلاء عن قصد في تزييف وعي قطاع واسع من الجمهور نحو أنماط اجتماعية سطحية, وترويج ظواهر سياسية مشوشة, جريا وراء مكاسب آنية. يبدو الاحتفاء بمخلفات الملكية السابقة, أحد تجليات الحالة الاجتماعية الجديدة لبعض نجوم الاعلام في مصر. فالهدف المطلوب لعدد من متصدري المشهد الاعلامي, تجاوز الصورة الحقيقية البائسة وإيجاد صورة ذهنية واعدة, تتكفل بنقل الشخص( الاعلامي) لطبقة أعلي, قد تمكنه من محو ذكريات الصبا الأليمة. الأمر الذي يفسر أسباب الالتصاق أو الاقتراب من الملوك والأمراء وأحفادهم, كلما حلوا في مصر, أو ذهبوا إليهم في أماكن إقامتهم في الغرب والتباهي بالحديث معهم. وأول ملمح يصطدمك مع تغير الوضع الوظيفي والمادي هو التنكر للمحيط الاجتماعي السابق والسعي إلي أو التمسح في محيط اجتماعي مغاير, ربما يكون مدخلا لنقلات وظيفية ومادية أكثر رقيا وتقدما. إذا كان الفقر يؤدي إلي القبح كما يقولون, فإن نقاء المجتمعات الملكية البائدة لا يتناسب إطلاقا مع صيحات المطالبة برفع الظلم الراهن. لذلك يمثل التسلق عبر مجموعة من المباديء والشعارات قمة النفاق الذي يضر بركائز المجتمع. ولا توجد مشكلة في الأنظمة الملكية التي حقق بعضها نجاحات لافتة, لكن المشكلة في اتخاذها ذريعة لاسقاطات سياسية أو مطية لزيادة المكاسب الاقتصادية. بالتالي فالتظاهر بالحنين إليها ما لم يكن أصيلا, سيكشف عن تناقضات خطيرة, تحدث تشوهات في المجتمع وتضر مستقبله.