1- جنرال بشرعية العمامة كان ضياء الحق ديكتاتوراً سيئ السمعة خنق باكستان بالأحكام العرفية، ونكّل بخصومه، كما صعد إلى الحكم بانقلاب عسكرى أبيض أطاح برئيس الوزراء المنتخب ذو الفقار على بوتو، مستغلاً السخط الشعبى على سياسات الأخير، ثم أودعه السجن وأعدمه، وظل يحكم بقبضة من حديد إلى أن مات فى تفجير حادث طائرة، قيل إنه مدبر فى إطار الصراع بين الهند وباكستان. ترسخ حكم ضياء الحق بركيزتين، أولاهما علاقة وثيقة مع الغرب وأمريكا، والثانية اعتماده على جماعات أصولية غازلها بشعار الشريعة الإسلامية، والوعد بتغيير القوانين الوضعية وتحكيم شرع الله. كانت حصيلة حكم ضياء الحق صفرية على مستوى الإنجاز السياسى والاقتصادى، وبالتأكيد ديمقراطية الحكم، لكن الإسلامجية اعتبروا كالعادة وفاته مؤامرة على الإسلام وحكم الدين، رغم أنهم تجاهلوا صعود الرجل عبر انقلاب، ومخاصمته للديمقراطية وحقوق الإنسان، وقمعه للأقليات (للدرجة التى كان لا يسمح لغير المسلمين بانتخاب مسلمين فى البرلمان، وكان عليهم أن يحكموا فى الصناديق على من يشترك معهم فى العقيدة وهو ما عُرف بالعزل الانتخابى للأقليات). هل يذكّرك حكم ضياء الحق بآخرين؟ لا حاجة للإجابة، لكن ما فعله ضياء الحق كان محاولة لتثبيت حكمه بانتزاع شرعية جديدة، فهو يدرك جيداً أنه جاء بانقلاب عسكرى لن يكون محل رضا طويل فى العالم الحديث، ومن هنا حاول استزراع شرعية داخلية جديدة تلصقه بعرش باكستان، بينما تكفل سياسة الطاعة المطلقة للغرب إنقاذه من الدوامات، فلجأ إلى لعبة الدين، والتلويح بشرع الله، واختيار أعضاء فى جماعات أصولية كوزراء ومسئولين، منهم على سبيل المثال قيادى فى الجماعة الإسلامية فى بلاده كوزير للإعلام (زى متولى يعنى). قديماً قال عالم الاجتماع الألمانى ماكس فيبر إن هناك ثلاثة أنواع من السيطرة الشرعية، وتعنى أن يستطيع (اللى فوق) إقناع (اللى تحت) بأنهم حكام جديرون بكرسيهم، أولها الشرعية العقلية، ثانياً الشرعية التقليدية، وأخيراً الشرعية الكاريزمية. الأولى تعنى التوافق على قواعد ثابتة عقلانية وقانونية للحكم (القواعد الديمقراطية فى الغرب)، والثانية البناء على تقاليد قديمة للمجتمع (ما يُعرف بالشريعة أو الأعراف)، والأخيرة تعتمد على قدرات القائد الساحرة مثل (كاسترو وعبدالناصر). واختار ضياء الحق الشريعة كمدخل تقليدى للسيطرة وإخفاء حكم الفرد الطغيانى المطلق، ونجح نسبياً لطبيعة بنيان المجتمع الباكستانى التقليدى، القائم على الطوائف، ولطبيعة ميلاد الدولة من رحم الدين وتفسيراته مع انسلاخها عن الهند. نجح فى السيطرة ولم ينجح فى الإنجاز. وبعد أن مات، حاول ابنه العودة، فهاجم الراحلة بناظير بوتو لضلوعها فى التحديث، وكانت كلمة الهجوم الأثيرة فى تصريح لمجلة أمريكية «بوتو لا تتبع الشريعة الإسلامية». 2- مرسى من الصناديق للمصاحف مرسى بدأ من حيث انتهى ضياء الحق، لحسن حظه جاء إلى الحكم بشريعة الصناديق، عقب ثورة شعبية من بين الأضخم عدداً فى تاريخ، كان من المفترض أن تضمن له مشروعية العقل بحسب تقسيم فيبر سيطرة تلقائية، لكنه بعد عام تقريباً من نجاحه، ينجرّ إلى تقليدية ضياء الحق، سلفه فى الفشل، يلجأ إلى نوعين من السيطرة، واحدة باسم الشريعة، وأخرى باسم الثورة. باسمهما يقفز على ما سماه فيبر مشروعية العقل، وهى التى جاءت به إلى الكرسى. رهان الرئيس الحالى، وهو ينحو منحى ضياء الحق فى التنكيل بمعارضيه والاستحواذ باختصاصات يجور بها على السلطتين التشريعية والقضائية، أن حلفاءه الجهاديين سيرونه رجلاً يرفع لافتة الشريعة، فيما تخلو أدبيات السلفيين من اعتراف بالديمقراطية والصناديق «لأن الحاكمية لله، والإمام يحكم إلى إن يموت، وحقوق الإنسان الغربية ستنشر الانحلال ولا يمكن للذميين أن يشاركوا فى الولاية». هو إذن يضمن ولاء الجهاديين والسلفيين، ويتبع الغرب وينفذ أوامره بحماية أمن إسرائيل، تتراجع هنا فى ذهنه أهمية مشروعية العقل، هو يملك السيطرة التى بموجبها يغير قواعد اللعبة ويضمن استمرار عشيرته على كرسى الحكم. لكن الرهان بتغيير منابع السيطرة من العقل إلى الشريعة (حسبما يفهمها الإسلامجية) بات وهماً لأسباب عديدة، منها أن الفشل فى إدارة الدولة وتبديد الوعود جاء أسبق من إحكام السيطرة، فطال السخط ليس فقط الكتلة البسيطة المسيسة والثورية، أو حتى بقايا النظام القديم، بل وصل للأغلبية الساكنة البسيطة، التى لم تدخل الثورة أو الحاكم باسمها اليوم جيوبهم، وتركهم الرئيس المؤمن عرضة للتضخم، وانعدام الخدمات. ضياء المصرى تقف أمامه كتل خارج حدود الطوائف، متمردة على سطوة كهنة التنظيمات المغلقة، أمامها تراث من فشل اللعبة التقليدية القديمة، فى السودان وباكستان وأفغانستان تريد العودة إلى مشروعية العقل، لا تخدعها رطانة كهنة يصلون ويذبحون، ولا أحاديث نهضة أمير الظلام.