ابتداءً، لا أحب أن أستعمل كلمات «الحب» و«الكراهية» فى التحليل السياسى! فهى لا تفيد كثيراً فى تفسير العلاقة بين الدول وبعضها البعض، ولا فى تحليل العلاقة بين القوى السياسية المتنافسة فى داخل الدولة الواحدة! ومع ذلك تظل المحبة والكراهية أحد المعايير التى لا بد من الاستناد إليها لتقدير علاقة المحكومين بالحاكمين، وتوضيح ما إذا كان شعب ما أو قطاع اجتماعى معين يحب أو يكره هذا الزعيم أو ذلك الحزب! فهل هناك شك فى أن جمال عبدالناصر بالرغم من أنه لم يكن «ديمقراطياً» (ولم يدّع هو نفسه ذلك!) كان ذا شعبية طاغية ربما لم يوجد مثلها فى التاريخ العربى المعاصر كله؟ ألم يكن رد الفعل التلقائى من جانب ملايين المصريين والعرب، على تنحيه عن الرئاسة عقب هزيمة 1967 دليلاً دامغاً على حب شعبى جارف تجاوز وتسامى فوق كل نواحى التقصير، فغفر لقائده الهزيمة القاسية وشجّعه على الاستمرار والعمل على إزالة آثار العدوان؟ ألم تكن جنازة جمال عبدالناصر واحدة من أكبر الجنازات فى التاريخ والتى خرج فيها شعب بأكمله (ربما بالمعنى الحرفى للكلمة) لتوديع الزعيم الذى أحبه على نحو أذهل العالم كله، فأخذ يتابع الجنازة مشدوهاً بنشيد الوداع الذى أبدعته عبقرية الحس الشعبى الجمعى فى لحظة الحزن النبيل «الوداع يا جمال يا حبيب الملايين»؟! ألم يعرف الشعب المصرى -قبل ذلك- حبه وارتباطه العاطفى الرائع بزعيميه الخالدين سعد زغلول، ثم مصطفى النحاس، وبحزب الوفد الذى جمع بين قيادته لحركة استقلال الأمة المصرية، وبين دمجه الرائع لعنصريها (القبطى والمسلم) فى بوتقة وطنية رائعة، أطلقت طاقات وإبداعات المصريين ثقافياً وفنياً وعلمياً؟ لقد طرحت هذين المثالين من التاريخ المصرى القريب لكى أقارن بهما الموقف الشعبى الحالى ممن يحكمونه اليوم: أى الإخوان المسلمون وحزبهم «الحرية والعدالة»، ورئيسهم د.محمد مرسى! بالرغم من أنهم -عكس حالة عبدالناصر- «منتخبون ديمقراطياً»!، وأنهم أيضاً -عكس حزب الوفد وزعمائه- حريصون على التمسح بالدين فى بلد سمته الأولى هى التدين على نحو اعتبره النحاس باشا يوماً «شعوذة» مقيتة (وفقاً لمقولته الشهيرة لمنشئ الجماعة «حسن البنا»!). غير أننى أعلم -ابتداءً- أن من الإخوان وزعمائهم من سوف ينكر من الأصل حقيقة الكراهية الشعبية للإخوان، استناداً إلى حجج أصبحت متكررة مثل أن الشعب يحبنا ولكن «الفلول» والكارهين للإسلام (!) هم من يديرون مظاهر الكراهية للإخوان وحزبهم، أو أن الشعب يحبنا ولكن الإعلام (الفاسد والمأجور والتابع للفلول) هو الذى يشوّه تلك الحقيقة، ويقوم بدعاية منظمة ضدنا! غير أن الحقيقة المرة، التى يرفض الإخوان وزعماؤهم الاعتراف بها، هى أن الغالبية الساحقة من المصريين ترفض الإخوان وتحارب الأخونة وتلاحقها وتحذر منها! ويخطئ الإخوان خطأ جسيماً إن هم تصوروا أن عمليات الهجوم المتكررة على مقارهم -فى كافة أنحاء مصر تقريباً- (التى شابها للأسف الشديد عمليات عنف وحرق ينبغى إدانتها وشجبها على نحو قاطع لا لبس فيه) لا تنطوى على رفض شعبى كاره للإخوان، وأن من يعادونهم هم فقط بقايا «الفلول» و«البلطجية»! ويخطئ الإخوان إن هم توهموا أن ما يحدث ليس إلا مؤامرة من جبهة الإنقاذ وأحزابها التى فشلت فى الانتخابات «وتحاول الالتفاف على الشرعية»! وفق تعبيرهم الأثير المتكرر! جبهة الإنقاذ -فى الواقع- لا تقود حركة الجماهير الثورية ولكنها فى الواقع تلحق بها وتسعى للتجاوب معها. يخطئ الإخوان خطأ جسيماً إن هم تصوروا أن زعماء «الإنقاذ» هم الذين «حرّضوا» الشعب على الهجوم على مقارهم وملاحقة أعضائهم، «ألم تشهد مصر فى العام الماضى -مثلاً- قبل مولد جبهة الإنقاذ «مليونية» الثلاثاء 27 نوفمبر 2012 الحاشدة ضدهم وضد «الحرية والعدالة» والتى واكبتها مظاهرات عديدة مماثلة اجتاحت محافظات مصر، واستهدفت مقار الإخوان فى الإسكندرية والغربية وكفر الشيخ والدقهلية والإسماعيلية والسويس والمنيا وأسيوط... إلخ؟ والتى دعا فى أثنائها أيضاً «المرشد العام» إلى حماية مقر المقطم؟ ويخطئ الإخوان خطأ جسيماً إن تجاهلوا بدء تساقط قلاعهم التقليدية فى الاتحادات الطلابية والنقابات المهنية! ويخطئ الإخوان أكثر وأكثر إن هم توهموا أن ما يحدث لهم هو بسبب «الإعلام» و«سحرة فرعون»! الإعلام أداة محايدة يمكن لهم أن يستخدموها كما يستخدمها الآخرون تماماً، وقنوات الدولة كلها مفتوحة للحرية والعدالة، وقنوات فضائية عديدة تنطق باسم الإخوان، وحلفاء الإخوان، وتنفق عليها المليارات! ولذلك فإن اتهام «الإعلام» هو بمثابة وضع الرؤوس فى الرمال، فضلاً عن أن سماحهم بمحاصرة وملاحقة وتهديد الإعلاميين هو وصمة عار فى جبينهم ليس فقط أمام الشعب، وإنما أيضاً أمام العالم كله! الشعب المصرى، بذكائه الفطرى، وبطابعه الوسطى المعتدل يرفض التوسل إليه عن طريق التجارة بالدين والمزايدة بالتدين! وذلك لسبب بسيط جداً ومعروف جداً وهو أن الإنسان المصرى متدين بطبعه، بتاريخه وتراثه وجوهر ثقافته، ولذلك فإن الذى يبيع بضاعته للمصريين تحت عنوان الدين والتدين إنما يبيع «الميّه فى حارة السقايين» كما يقول المثل الشعبى. وفوق ذلك فإن الحس الشعبى المصرى الأصيل، لا ينطلى عليه التظاهر بالورع، والتزيّد فى التدين، بل إن ذلك السلوك غالباً ما يوجد لديه الشكوك فيمن يمارسه! لقد حوّل الرئيس مرسى صلاة الجمعة إلى طقس رئاسى يتم بسيارات الرئاسة الفارهة، وسط الحرس الجمهورى المدجج بالسلاح، مع أن «صلاة الجمعة» هى فى الواقع طقس عادى يمارسه ملايين المصريين بهدوء وورع وصدق كل أسبوع. غير أن الأهم بكثير هو ما انطوت عليه السياسات الإخوانية التى تفرط فى خلط السياسة بالدين، من تشجيع لظهور أحزاب وقوى دينية إسلامية أخذت تنحو منحى طائفياً خطيراً، يهدد بتقسيم الوطن ليس بين مسلميه وأقباطه، وإنما فى داخل المسلمين أنفسهم بين من هم مؤمنون و«علمانيون» وفق التعبير المغلوط الذى أخذ فى الانتشار. هذه كلها أمور دخيلة على روح مصر وطابع مصر، وسلمية وتسامح مصر وشعبها! والشعب المصرى المعتدل والمتسامح، مسالم بطبعه الأصيل، ولذلك فإن تراث العنف، ولغة العنف، التى كانت لصيقة دوماً بالإخوان.. تضع فعلياً حاجزاً بينهم وبين الشعب، غير أن الأدهى من ذلك، وفى مناخ التسيب والفوضى، الإحساس الخطير بانعدام الأمن والأمان، إضافة إلى سيادة الأفكار الخبيثة عن دور المجتمع والناس فى تحقيق الأمن، وأخذت تنتشر مظاهر عديدة للانتهاك الفادح والمشين للقانون، فى ملاحقات (شعبية) للمتهمين، إلى حد القتل والتمثيل بالجثث على نحو يتناقض تماماً مع الطابع الأصيل للثقافة المصرية والشخصية المصرية، التى شوهت بفعل الجهل، والفقر، والفهم القاصر والممسوخ للدين وللشريعة! تلك جرائم وممارسات كان ينبغى أن تكون موضع اهتمام وتنبيه على أعلى مستوى، ولكن هذا لم يحدث أبداً. ذلك ينقلنا فى الواقع إلى العنصر الثالث الذى يفسر الرفض الشعبى للإخوان، فضلاً عن رفض النخبة، ألا وهو ذلك الاستهتار الفج بقيمتى دولة القانون وحرية التعبير، والذى بلغ ذروته فى المشاهد التى لطخت سمعة مصر كدولة مدنية حديثة متحضرة. أى مشاهد حصار المحكمة الدستورية العليا أولاً، ثم محاصرة مدينة الإنتاج الإعلامى ثانياً، فهل هانت مصر إلى هذا الحد، وهل بهذه البساطة تمرغ فى التراب دعائم الدولة المدنية الحديثة فى مصر على يد الإخوان؟ وهل مع ملاحقة الإعلاميين والصحفيين وإهانتهم وترويعهم، بعد محاصرة القضاة، يكون غريباً أن يرفض المصريون، وأن يكرهوا حكم الإخوان؟