لم تكن «مالالا يوسف زاى» ذات الأربعة عشر ربيعاً تتوقع، وهى عائدة وزميلاتها بحافلة المدرسة بعد انتهاء يومهن الدراسى، أن لها لقاء مع قدر أحمق الخطا ينوى سحق طفولتها. كُنَّ ينشدن لوطنهن الكسيح، سوات، مرثية باكية فى ضياع حلمه وغده وابتسامته التى كانت تنشر الطيب فى ربوع المدينة، ويتباكين على مروجهن الغنّاء، وكيف كان العشب يتمدد فى الطرقات كبساط أخضر تنتشر على جانبيه الزهور البرية بعبق عطرها وطيف ألوانها، فترتدى ثوب الحسن فتزداد بهجة وحبوراً، كيف كان يتهامس نسيم الصباح بخفة مع أوراق الشجر فيتناغم حفيفهما فى حُبٍّ يُشيع فى الصبح نسيماً عطراً ندياً يداعب شدو العصافير على أغصان الشجر فيزيد الصباح رونقاً وجمالاً. تشق الحافلة طريقها بصعوبة وسط الدمار وآثار الخراب الذى يرسم القبح على جدران المنازل فيعيد الكآبة والدمعة إلى عيون الطفولة البريئة. لم يبقَ من زهور الطرقات سوى زهرة برية واحدة تتفتح رويداً رويداً تنشر شذاها وعطرها فى الجو، سوف تعلّقها مالالا على جبين شهيد الوطن الذى مات تحت أنقاض القرية التى تمر بها الحافلة، هكذا كانت الأنشودة تقول. لم تكن شذا، صديقة مالالا التى تجلس بجوارها، تعلم أن الدراجة البخارية التى تحاول اللحاق بالحافلة وإيقافها تقصد قتل مالالا وهى منهمكة فى غناء قصيدتها عن الربيع والدمار. فجأة توقفت الحافلة، صعد الملثمون وسط ذهول ورعب الأطفال، شاهرين أسلحتهم الآلية: «مَن منكن مالالا؟ تكلمن وإلا أطلقت الرصاص عليكن جميعاً». تبلغ مالالا الآن خمسة عشر ربيعاً، وُلدت بمدينة منجورا محافظة سوات شمال غرب باكستان، ظلت هذه المحافظة تحت حكم طالبان لمدة خمس سنوات بقيادة فضل الله، حرّموا تعليم البنات وأحرقوا مدارسهن ومنعوهن من ارتداء الملابس البيضاء وسمحوا لهن بارتداء الملابس السوداء ينظرن منها بعين واحدة خلف برقع حالك السواد سميك الجدران، حرّموا تعاملهن مع الرجال مباشرة وركوب المواصلات دون محرم، واجتاحت جماعات الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر البلاد ترجم النساء دون بيّنة لمجرد الشك فى سلوكهن، وتقطع أصابعهن المخضبة بالحناء وتؤدبهن بالكرباج وإطلاق النار على رؤوسهن بالشوارع، وساقوهن إلى ميادين التأديب كما تساق البهائم، حتى بعد تحرير سوات ما زالت خفافيش الظلام تمتص دماء الضحايا ليلاً وتختفى فى سراديب الماضى نهاراً. انطلق رصاص المجاهد صوب رأس مالالا ليُخرس فيها صوت العقل والخير، تتناثر كراريس الأطفال ملطخة بدماء مالالا، اختبأ الأطفال مذعورين خلف كراسى الحافلة، دهست جحافل التتار الكلمات التى تناثرت من كتب الأطفال.. اقرأ، تعلم، أحب، لا تكره.. خرجت وكالة أنباء طالبان تزف للعالم نبأ انتصارها على براءة طفلة أرادت أن تتعلم الدرس. مالالا فى فراشها بالمستشفى تحيطها قلوب المحبين للخير والحرية، تسترجع ذكرياتها بعد خروجها من غرفة العمليات بعد إجراء عملية ترقيع جزء من الجمجمة تناثر من الرصاص بغطاء من مادة فولاذية، تسأل عن الزهرة البرية الوحيدة التى ستعلقها على جبين الشهيد، تعرف أن أقدام الملثمين قد دهستها فماتت كموت الشهيد، تتذكر كيف راسلت الإذاعة البريطانية باسم مستعار تحت حكم طالبان وكشفت للعالم، على مدونتها الخاصة، جرائمهم فى حق الطفولة والمرأة، وتحكى لهم مأساة المرأة الباكستانية فى سوات وكيف حُرمت من التعليم وكيف انتُهكت آدميتها وإنسانيتها تحت دعاوى ليست من الدين، وكيف خرجت عليهم جماعات الشر من كهوف الماضى السحيق تجبرهم على دخول هذا الكهف المظلم بحجة أنه طريق الجنة. تبتسم مالالا وهى تتسلم جائزة سيمون دى بوفوار الفرنسية، وتبكى وهم يزفون لها بشرى ترشحها لجائزة نوبل للسلام، سألوها لماذا تبكى، قالت: إن مالالا معناها بلغة بلادى «منكوبة بالحزن»، فهل ستعيد هذه الجوائز الحرية لوجه بلادى الحزينة وتُزيح وجه طالبان المنكوب، هل ستعود الطرقات ببساطها الأخضر ورائحة الزهور الندية، هل سيعود حفيف الأشجار يتناغم خلف ستائر منازلنا، هل ستغلق أبواب الكهوف فجراً حتى لا نرى وجوههم «الغبرة» مرة أخرى؟ ليس هناك علاقة حتى الآن بين سوات وبلادنا.. اللهم لطفك بنا.