داخل الحجرة المغلقة تتداخل الأيام، صباحها كمسائها، وظهرها كعصرها، وما يبيت فيه، بالتأكيد سوف يصبح فيه، نفس الطاقم الطبى الذى يسهر على رعايته، نفس الحراسة الأمنية التى تحميه ليلاً ونهاراً، الزوار الذين اعتاد أن يستقبلهم. يشاهد الأخبار على شاشة التليفزيون؟ ربما، وربما أيضاً يتصفح الجرائد، ربما يصل إليه ما يجرى فى الشوارع الآن، وربما لا يعرف عنه شيئاً، غير أن يوماً كهذا اليوم لن يمر مرور الكرام، حتماً سيتوقف عنده، يتأمله ملياً، يراجع نفسه ربما للمرة المليون، يستعيد مشاعره، مراراته، إحباطاته، خوفه، تظهر الوجوه وتختفى، تصك أذنيه كلمات كثيرة، يستخلص منها بصعوبة ما سمعه مساء ذلك اليوم «قرر الرئيس محمد حسنى مبارك تخليه عن منصب رئيس الجمهورية»، هكذا فى أقل من نصف دقيقة، توقف شريط السينما وانتهى الفيلم وصار لزاماً عليه أن يختفى من على الشاشة إلى مكان آخر تنطفئ فيه الأنوار، وتسكن فيه الأصوات، وتتداخل فيه صباحات الأيام مع مساءاتها. لن يتاح له، بالطبع، أن يسمع ما يتردد فى الشارع، تتسلل الكلمات على استحياء من أصحابها «أيام مبارك كانت أحسن»، يرددونها وهم يشاهدون ما يجرى من تراجع فى كل المجالات، «برضه مبارك ما كانش ينفع يكمل» يستدركون بسرعة وهم يختلسون النظر إلى ذلك الجالس على كرسى الحكم، ينشط الخيال ليعقد مقارنة بينه وبين من ذهب، يتعثر الخيال قليلاً فى فروق ظاهرة، الشكل والسمة والهيئة، لكنه ينساب بخفة فيما عدا ذلك، نفس السياسة المتبعة فى قضايا المعيشة، من رفع الدعم عن المواد البترولية، رفعه عن المواد التموينية، القروض الخارجية، بيع الأصول، صكوك الملكية، إعداد الدستور بما يضمن التمكين والبقاء، الحزب الواحد الذى لا شريك له، القرارات المحصنة، وحرية الرأى الغائبة، والوزراء المقربين، ورجال الأعمال المدللين، والشرطة التى تحمى الحاكم، والمؤسسات التى تنفذ توجيهاته الحكيمة، وما يستجد غير ذلك من أعمال. من غرفته يتابع محاميه وهو يتجهز بملف ضخم يجمع مادته حالياً ليقدمه فى جلسات المحاكمة الجديدة، يقلب أوراق الملف فى دهشة ظاهرة، قبل أن يقلب عينيه فيمن حوله «ماذا فعلت أكثر مما فعل غيرى؟»، يطوى صفحات الملف ويعود مرة أخرى للحياة بعيداً عن الأضواء، لعله لا يدرك أنه لم يغِب عنها يوماً واحداً، كان تحتها طوال الوقت، فيما كان المشهد ثابتاً طوال العامين، لم يتغير فيه شىء، مظاهرات عارمة تطوف البلاد تطالب بخلعه، ومسئولون يقفزون من السفينة فى اللحظات الأخيرة، وخطابات يلقيها من خلال التليفزيون على عجل، وحصار لقصر الحكم، وكلمات هاربة تصك سمعه لنائبه وهو يعلن تنحيه عن منصب رئيس الجمهورية، فيما الاحتفالات دائرة فى طول البلاد وعرضها.