دأب على الجلوس مسنداً ظهره إلى القفص الحديدى الذى يطوق مقام «سيدى العسكرى». منذ ستين عاماً عاش «مجاوراً» للمقام، يجلس فى المكان ذاته فارداً كف يده إلى الناس متوسلاً إليهم بحق الشيخ أن يعطوه مما أعطاهم الله. تعود زوار المقام أن يلقوا بالأوراق المالية الكبرى من بين القفص الحديدى إلى «العسكرى» الراقد لتتراكم فوق كسوته الخضراء، فى أحيان كانت الأيدى الكريمة تمتد إلى المجاور الجالس إلى القفص المبارك ببعض «النفحات»، تكون النفحة معقولة فى أوقات، لكنها فى الأغلب كانت قليلة، ولا ترقى بحال إلى ما تقذف به الأيدى من أوراق نقدية تتراكم فوق كسوة «العسكرى»، كثيراً ما كان «المجاور» يختلس النظر إليها فتعتصره الحسرة. فى لحظات كانت «تسطله» رائحة البخور التى تنطلق من المقام فتذهب برأسه كل مذهب، فيرى نفسه وقد أصبح صاحب المقام، وأن تلك الأوراق المالية الكبرى تلقى إليه هو وأن الناس تطوف من حوله، توقد له الشموع وتطلق له البخور، كان يغرق فى الحلم لحظات تطول أو تقصر حتى يقرصه الجوع أو العطش الدائم إلى مقام «صاحب المقام» فيفيق من «سطلته» ويبدأ فى مد يده التى ارتخت من جديد ويعلو صوته على صوت الصخب الذى يحدثه الطائفون ب«العسكرى» طالباً أن تكون «أصواتهم» معه وأن يعطوه مما يعطون سيده «العسكرى» الراقد. فى يوم من أيام شهر يونيو بحره القائظ، كان الوقت ظهراً وحرارة الشمس «تسيح» الرؤوس.. شعر «المجاور» بدماغه وقد ثقل وجفونه وقد ارتخت فاستسلم لسِنة من نوم، لم يدرِ كم من الوقت مر عليه عندما استيقظ على ظل رجل طويل عريض يقف أمامه، رفع «المجاور» رأسه إليه وفرد يده إلى أعلى طالباً منه «حسنة». نظر إليه الرجل ملياً ولم يجبه، فكرر «المجاور» سؤاله. لم يبد الرجل أية حركة تدل على أنه ينوى دفس يده فى جيبه ليعطيه شيئاً. مرت لحظات ثقيلة، توجه الرجل إلى «المجاور» بعدها بالسؤال: انت بتعمل إيه هنا؟ أجاب «المجاور»: أسأل الناس -متشفعاً بحق سيدى الشيخ العسكرى- عشان يعطونى مما أعطاهم الله.. سأله: من كام سنة وأنت تفعل ذلك؟ أجاب: من ستين سنة يا ابنى. دهش الرجل وقال له: إذن أنت مليونير! ضحك المجاور ضحكة صفراء وقال له: مليونير إيه يابنى؟ أنا مش لاقى آكل.. فاستطرد الرجل: ولسة بتقول يا «عسكرى»؟ قال: نعم.. رد: طيب ما تقول يا أى حاجة تانية.. فقال المجاور: أنا مليش غير سيدى العسكرى.. عندئذ صمت الرجل، فتوجه إليه المجاور طالباً منه أن يعطيه مما أعطاه الله، فأجابه الرجل: أنا توّى خارج من السجن..خش خدلك تأبيدة!