مشاهد لا تغادر الذهن بسهولة، وأحداث لا تمر على النفس مرور الكرام، ومواقف وردود أفعال أقل ما يقال عنها إنها مؤلمة. هل سيُمحى من الذاكرة يوما مشهد جثث تلقى بإهمال إلى جوار رصيف محمد محمود؟ هل سيرتحل عن المخيلة يوما مشهد جندى يتقافز فوق بطن متظاهر؟! هل سينسى المرء يوماً مشهد بيادة تدهس جسد فتاة لا حول لها ولا قوة؟ هل سيزول يوماً ألم كرامة تمزقت عن جسد وطن، مع عباءة لم ينشغل بعض بنيه إلا بكونها ذات «كباسين»؟! وهل سيندمل يوماً قرح نفس تمزقت بردود أفعال البعض وتعليقاتهم وجلدهم للضحية وتحيتهم لجلادها؟ ربما.. لكن ما إن يزول الألم، ويكاد الجرح يندمل، حتى يلاحقه مشهد جديد أشد بذاءة وموقف آخر أكثر قسوة، وقرح أثقل على نفس ملأتها ندوب وندوب! فلئن زال عن الذهن مشهد المسحول المستلقى على الأسفلت عارياً فهل سيزول يوماً مشهد المصرية التى يجتمع حولها العشرات لينهشوا عرضها؟ هل سيندمل يوماً جرحٌ غائر، شقه النظر لأناس لا يشبهون البشر إلا شكلا، وقد أعمتهم سكرة شهوة هم فيها يعمهون، وفى دنسها يتقلبون؟ حقيقة لست أدرى. لا أريد أن أتوسع فى وصف هؤلاء الذين زالت عنهم الإنسانية، بل وربما الحيوانية، وتخلقوا فى تلك اللحظات بأخلاق شيطانية سولت لهم أن يجتمعوا على فريسة ضعيفة لاغتصابها أو التحرش بها وطعنها بسكين رغبة قذرة كادت تودى بحياتها بعد عرضها، وذلك بحماية سيوف نجسة، ونيران تتطاير لتنافس لهيب الشهوة التى تستعر فى قلوب أولئك الذئاب مع الاعتذار للذئاب التى ربما تتمتع بمروءة أكثر من مروءتهم الضائعة. لا أريد أن أتوسع فى وصفهم. ربما لأننى لا أستطيع وصفهم. فالحقيقة أننى لا أعرفهم، بل لا أستطيع التعرف على شىء من ملامح الإنسانية فيهم، فضلا عن الدين والخُلق! لا أستطيع التعرف على بقايا آدمية فى سعيهم المحموم خلف فريسة مسكينة. لا أستطيع أن ألمح أمارة رجولة واحدة فى بذاءة مقصدهم، وخبث طويتهم، وعفونة أياديهم التى تعبث بجسد المصريات. من أنتم؟! ومن أين أتيتم؟! وأى قاع هذا الذى فيه ترديتم؟! لا يكلمنى أحدكم عن الظروف والأحوال والكبت وكل تلك الديباجات التى أقسم إنّى أحفظها جميعاً وأرفض أن يجترئ أحد على تبرير تلك الحيوانية النجسة بها. إن ما رأيناه فى المشاهد الأخيرة ليس تحرشاً كالذى يهوى الباحثون الاجتماعيون والأطباء النفسيون أن يحللوا أبعاده وأسبابه. إن ما رأيناه هذه المرة كان شيئاً مختلفاً تماماً، لقد رأينا شراً خالصاً ممنهجاً لا ألمح فيه ومضة خير أو لمحة عذر أو تبرير، لقد رأينا سواداً كثيراً، لكنه هذه المرة أشد عتمة وأحلك ظلمة وأخشى أن تتسرب إلى قلب من يجرؤ على تبريره. هل هو غضب؟! هل هو انتقام؟! هل هو تآمر؟! هل هو فجور مضطرم انبجس فى وجه الضحايا المنتهكات، أم هو مزيج من كل ذلك؟! ترانى هنا أتذكر مقولة صلاح عبدالصبور وأتساءل معه: كيف ترعرع فى وادينا الطيب هذا القدر من السفلة والأوغاد؟! حقيقة لست أدرى. لكن ما أدريه جيداً أننا بصدد قاع يمتلئ ويزدحم، وسنهوى فيه جميعا إن سكتنا أو دفنا رؤوسنا فى رمال وانشغلنا عنه بمصالحنا ومعاركنا السياسية والفكرية. إن كان هؤلاء فى سكرتهم يعمهون.. فأين من ينكرون ويتحركون ويُغَيِّرُون؟ أين الصالحون المصلحون الذين يقومون وينقذون هذا الوطن من ذلك الدرك الحالك الذى لا يهتم به المتلونون؟ أين من ينتشلون شباباً من قاع هم فيه يغرقون؟ قاع قد ازدحم!!