من هنا... من موقع المسئولية التى يئن بها صدرى منذ الأزل.. أعلنها للتاريخ.. للدنيا كلها.. للأجيال القادمة.. لا.... تسألونى عن المنطق.. ابحثوا عنه هناك تحت عباءة السلطان أسيرا.. أما عن خلل الموازين فأريد أن أبشركم أنه ليس هناك خلل لأنه لم يعد هناك موازين.. فذلك مفكر إسلامى لأنه يرتكب الذنوب التى نهى عنها الاسلام فهو يسب ويكذب ثم إنه لا يصلى أصلا.. وهذا الرأسمالى الوطنى لأنه احترف بيع الوطن.. آخر ما تبقى لنا من شرف الأجداد فى أشهر قاعات المزادات.. مقابل تلك الوريقات المزركشة ذات الرائحة النتنة.. وهذا المسئول الكبير.. لأنه مسئول جدا عن جراح وآلام الوطن وإهدار مليارات من أجل عمولات بالملايين.. فيهوذا لم يمت.. صدقونى.. أما لو سألتمونى عن قوت الغلابة ودوائهم ومعاشهم فسأدلكم أين تجدوه.. فقد رأيته هناك فى صفائح القمامة بين بقايا المآدب وليالى ألف ليلة فى بلاط الملك وكهنته.. وأنا الآن لم أعد أريد شيئا فها هما يدان عاريتان.. وظهر للحائط.. ونزيف لا يندمل.. فخطيئتى أننى لم اعد أستطع الاحتفاظ بمقعدى بين المتفرجين رغم أنفهم أكثر من ذلك.. لم أعد أستطيع الاكتفاء بأضعف الإيمان.. وأنتم ألم تملون كل تلك السنين.. هل ستظلون إلى الأبد تتغامزون وتتلامزون وتمصمصون الشفاه ثم تنامون وكأن شيئا لم يكن.. فرحين بعنترية الهمس المرتجف من سيف الجلاد.. مرتعبين من السقوط وأنتم لا تدركون أنكم لن تسقطوا لأنكم فى القاع.. آه يا وائدة أبنائك.. سامحك الله أيتها القاتلة المقتولة الذبيحة قربانا على أعتاب الكهنة الكذابين.. يا بلد المحبوب ليت لى فى حبك اختيار.. ليت لى فى حبك اختيار. .. ثم أجهش فى بكاء طفل ألقت به أمه إلى المجهول فى ليلة شتاء باردة.. لينقض عليه رجال الأمن المرابضون بعد أن أرهقهم ذلك المجهول المتقافز فى محطات القطارات مانعا تحركها حاملا لافتات ممزقة من الكرتون الردىء كتب عليها بخط مهتز بعض المعادلات العجيبة مصرا على تعطيل القطارات وهو يصيح بهذيان لا يفهمه أحد. تلاشت باقى عباراته بعد أن سقط مكبر الصوت البدائى من بين الأصابع الخائرة ليتردد صدى غير واضح لصيحات يائسة.. تخفت شيئا فشيئا.. وينتهى العرض.. وينسحب المارة كل إلى حياته وقد ماتت على الشفاه آثار ضحكات ساخرة يشوبها مرار غامض.. وتبقى فى العيون آثار شفقة ربما ليست عليه وحده.... ويتلاشى صدى الكلمات ليشغل حيزا صغيرا جدا من الفكر ليوم أو يومين مع تندرات وسائل الاعلام عن ذلك الكهل الذى ظل يظهر ويختفى متسببا فى ارتباك الحركة بالمحطات الرئيسية فأسموه مجنون القطارات ليتحول إلى طرفة يتبادلها الرفاق فى جلسات السمر على مقهى صغير أثناء مشاهدة الفاتنات العاريات فى إحدى الفضائيات أو فى غرفة مغلفة بالدخان الأزرق والسعال وضحكات بلا سبب. تركوه لتغرق السواعد المنهكة داخل.. أكمام فضفاضة يضيق العالم على وسعه بمرتديها.. ليغلف عالمه أسوار من حديد تعلو جدار العقل توسمه وتجعله رهينها حتى النهاية.. استسلم لحقنة مخدرة ستصبح ملاذه الأخير ليغيب ويضيع فى عالم الجنون... وأثناء انطلاق العربة إلى اللازمان واللامكان التفت الممرض حوله فى حذر قبل أن يمد يده باحثا بين طيات الملابس الرثة ليجد بضعة جنيهات وحافظة فارغة حتى من بطاقة هوية وقد طويت بها ورقتان بعناية تمزقت أطرافهما مع الزمن وبحركة تلقائية ودون أن يتحمل عناء قراءتهما ألقى بهما من النافذة وهو لا يزال يفتش... لتعبث بهما الريح حتى سقطتا على أسفلت الطريق تنهشهما إطارات السيارات المندفعة.. فتتلاشى الكلمات ولا تلمح إلا فقرات بسيطة قبل أن تتمزق تماما.. شهادة براءة اختراع.. وجزء من جريدة كتب فيها (عالم مصرى يخترع نظاما إلكترونيا صناعة مصرية لتشغيل المزلقانات يمنع احتمال الحوادث بنسبة 99% ويتعرض لهجوم شرس من مافيا العمولات.. وقد رفض عروضا مغرية لاحتكار اختراعه معلنا أنه ملك لبلده وحدها). ويتصدر الخبر صورة لشاب أسمر ذى شعر أجعد وعينين ثاقبتين وابتسامة عنيدة.. لو أضفنا ما يمكن أن تصنعه سنوات طويلة من القهر والظلم والفساد على ذلك الوجه المتقد بالحماس... لما قادتنا أقدامنا إلا إلى...... مستشفى المجانين. تم النشر بالعدد رقم 624 بتاريخ 26/11/2012