التعبير الأمثل لتوصيف الأزمة المصرية الراهنة هو تدافع ثلاث قيم تنموية سياسية، هى: التجديد والمسئولية والاستيعاب. لقد ازدادت ثقة الشباب المصرى فى توجههم وتحركهم السياسى «الغريزى» بعد ذلك الكيل من المديح والتقدير الذى لاقوه من قيادات كبريات دول العالم على شاشات الفضائيات العالمية، واندفعوا لتحقيق مثالهم السياسى، وقبلوا فى هذا الإطار التضحية بالتعليق على السياسات الاجتماعية المثيرة للجدل التى تتبعها حكومة د. هشام قنديل، كما فشلت حالة الترهيب التى ارتبطت بتراجع الاحتياطى النقدى الأجنبى، وما يعنيه ذلك، وكان هدف شباب الشارع هو النضال لأجل دفع نموذج الممارسة السياسية المصرية ليتجاوز حالة التجديد الفكرى النظرى التى انخرط فيها مفكرونا طيلة فترة حكم «المخلوع». يقابل هذا المشروع التجديدى من الدولة المصرية بمتناقضة الاستيعاب والرفض. ومعسكر الرفض تتزعمه القوى الإسلامية من ناحية، والقوات المسلحة من ناحية ثانية. وفى حين أن القوى الإسلامية ترفع شعار الخوف من الفوضى إذا تم إقصاء الرئيس المنتخب، فإن القوات المسلحة المصرية ترفع شعار خشية انهيار الدولة، وكلها غايات وجيهة، غير أن ما يدفع الشباب للتمادى فى رفضهم أن الحالة الإسلامية بدا وكأنها توقفت عن التجديد والابتكار مع تولى رئيس من بين ظهرانيها سدة السلطة، وشعر الناس أن سياسات المخلوع تتكرر مجددا. وفى الجهة المقابلة، هناك معسكر الاستيعاب الذى يعمل على ثلاث جبهات، أولاها: جبهة متسلقة تتمثل فى القطاع الأعظم من التيار اليسارى الذى يحركه بصورة أساسية رفض وجود الإسلاميين فى الحكم، فضلا عن حزب الوفد الذى اعتاد تسلق الفاعليات بموجب براجماتيته السياسية منزوعة السقف. أما الجبهة الاستيعابية الثانية فتتمثل فى الجسد الأساسى لقيادة «جبهة الإنقاذ»، وأعنى بها حمدين صباحى ود. محمد البرادعى، وهما قيادتان قبلتا عرضا مغريا بتزعم حركة شبابية لا تعنى لديهما سوى إنهاء ادعاء امتلاك الإسلاميين القوة فى الشارع. وهو ما يفسر سبب خضوع هاتين القيادتين تحديدا لضغوط الشباب وتلبية أمانيهم بالاستمرار فى تصدر المشهد والوجود فى الميدان. وبين هذين التوجهين ومن ورائهما تتحفظ قوى اجتماعية عن المشاركة، بينما تشارك قوى أخرى من وراء ستار لأجل حماية مكاسب تاريخية مشروعة أو غير مشروعة لها. وقوى رابعة تحاول أن تنتهج «طريقا ثالثا»، وتتمثل فى التجديديين الإسلاميين بزعامة د. عبدالمنعم أبوالفتوح، وفى ظهره حزبا مصر القوية والوسط. والأمر المؤكد حيال علاقة الموجة الثانية من الثورة الشبابية أنها لجأت للبرادعى وحمدين لأنهما ذوا صلات تمكنهما من استرجاع مصر عن حافة الانهيار إذا ما خشى د. مرسى دفع مصر للحافة. والأكثر تأكيدا أنها لن تتوقف إذا ما توقف البرادعى وحمدين؛ لأن لهؤلاء الشباب صلاتهم الذاتية، التى ستقوى مع الزمن، ربما إلى حد سحب البساط من تحت قيادات الجبهة أنفسهم. وبالنظر للمسئولية أو انعدامها، نجد أن هناك خطابين حيالها، الأول موجه من القوة الحاكمة، مفاده أن حركة الشباب غير قادرة على استيعاب المسئولية التاريخية عن الوضع الاقتصادى الراهن لمصر. وفى الجهة المقابلة، هناك اتهام بانعدام المسئولية لدى الدولة، متمثلا فى «حوار الدولة مع الجهات الخطأ»، وحول «عدم جدية الحالة الحوارية». كلا هذين التوجهين فى تحميل المسئولية محق، والمشهد المصرى يمكن أن يتحول لمباراة صفرية يخسر فيها الإسلاميون، أو يمكن أن يمثل مباراة غير صفرية الجميع فيها محق والجميع فيها رابح. ويبقى أن الكيان الوحيد خارج السياق هو الحكومة المصرية التى ستدفع الطرف المستكين ليخوض ثورة جياع حقيقية.