لا تتحرك الأحداث حولنا بعشوائية.. فكل ما نراه له جذور فى الأرض، وشواهد فى التاريخ، وسوابق يمكن لقراءتها أن تكشف طبيعة المعركة الدائرة فى مصر حاليًا. الآن تبدو جماعة «الإخوان» فى قلب مشهد العنف والفوضى.. ويبدو الشعب المصرى وجيشه «الوطنى العظيم» والقوى الحية من النخبة والسياسيين والإعلاميين فى قلب محاولة جادة و«تاريخية» لبدء عصر ودولة جديدة.. لا يمكن أن يحدث هذا دون أن يدرك الجميع خطورة الخصم الرابض بيننا وتاريخه، اختصارا لوقت قد يضيع فى توهم أن الإخوان يمكن أن يكفوا عن الإرهاب أو أنه يمكن إدماجهم فى حياة سياسية طبيعية يمارسونها مثل باقى الأحزاب السياسية. نعلم بالطبع أن عامًا من حكم مرسى وقبله بشهور - منذ فبراير 2011 وبعد تنحى مبارك - قد كشفا للرأى العام المصرى الكثير عن حقائق الجماعة واستهانتها بالدولة والوطن وحرمة الدم وقدسية الأرض المصرية وإدمانهم الكذب، لكن لا تنس أن معرفة تاريخ أى شخص يدلك على أن ما تأصل فيه لا يمكن انتزاعه أو تغييره، خاصة إذا كان يرى تاريخه الدموى بطولة وخيانته قربانًا وكذبه هو أعظم ما أتى به فى مواجهة الآخرين! سُنة الجماعة ومن بين فصول عديدة فى التاريخ تبقى تجربة الصدام بين «جمال عبدالناصر» والجماعة هى الأقرب لتفسير ما يدور حولنا، ففى 23 يوليو 52 قامت فى مصر ثورة كان محركها الجيش، ولم يختلف ما فعله الإخوان وقتها مع ما فعلوه فى ثورة أخرى كان محركها الشعب - يناير 2011- ففى كلتا الحالتين كان منطق الإخوان هو أن ما يمكن قبوله فقط هو أن نصل «نحن» للحكم، وإذا لم يحدث ذلك فالبديل هو الدم.. وفقط ! أيضا ففى الحالتين كان هناك دور بارز ل «الخارج»، وبينما كان موقف الشعب وجيشه مصرًا على استقلال القرار الوطنى كان الإخوان ولايزالون أكثر إصرارًا على تنفيذ مخططات الخارج مكتفين وفخورين بأن يكونوا أداة الخيانة الأقل تكلفة بالنسبة لقوى تريد السيطرة أو زعزعة الاستقرار فى البلاد تمهيدًا لمخططات شريرة ترسم ملامحها فى أروقة أجهزة استخبارات عاتية الفجور والخسة. يتشابه الموقف الحالى أيضًا مع صدام ثورة يوليو مع الإخوان فى تركز كراهية الإخوان وحملاتهم المسمومة ضد «رجل» بعينه تصدى لتحول تاريخى، وقرر مواجهة جماعة تتاجر بالدماء وانتزع جماهيرية ومحبة الملايين بصدق، وكان فى المرة الأولى «جمال عبدالناصر»، وفى هذه المرة كان اسمه «الفريق عبدالفتاح السيسى». ومن بين كتب ووثائق كثيرة تروى أسرار صدام جمال عبدالناصر والإخوان يبقى كتاب الكاتب الصحفى الكبير عبد الله إمام «عبدالناصر والإخوان المسلمون» هو الأكثر شمولًا وتوثيقًا. وربما لا تعرف الأجيال الجديدة أمام الذى كان واحدًا من الكُتّاب المؤمنين بالمشروع القومى، وقد عاش حياته كواحد من كتاب «روزاليوسف» البارزين «قبل أن يؤسس فى بداية التسعينيات صحيفة «العربى» لسان حال الحزب الناصرى التى شنت أولى الحملات الصحفية ضد مبارك ومشروع التوريث، فى وقت كانت فيه «الجماعة» تعقد الصفقات مع أركان النظام السابق من أجل مقاعد البرلمان. صدرت الطبعة الأولى من الكتاب - التى نعتمد عليها هنا - عام 1986. فى وقت اشتداد الحملة العاتية ضد جمال عبدالناصر، وبعد أن سمح نظام مبارك للإخوان بالتواجد وواصل ما بدأه السادات فى إتاحة الفرصة لهم بالوجود نكاية فى أى خصوم سياسيين محتملين. وفى مقدمة الكتاب يقول عبدالله إمام منذ عام وبعض عام، وفى مواجهة حملة ظلم التاريخ العاتية رجعت إلى صفحات الماضى القريب استلهمها الصواب.. وكنت عازمًا أن أقدم ما توصلت إليه مسلسلًا فى إحدى المجلات، لكن الظروف شاءت أن يطوى ليخرج كتابًا.. لا يهدف إلى التشهير بأحد، ولا يصدر لحساب أحد، وإنما ليحتل مكانًا عند الذين سيطلون بعد أجيال على تلك المرحلة من حياتنا ولهم علينا مسئولية ضمير أن تكون كل الآراء أمامهم، وأن يقلبوا فى وجهات النظر لعل الله يضئ أفئدتهم فيهتدون إلى الحقيقة ويتوصلون إليها منزهة عن الأهواء والعواطف». ما قبل ناصر ورغم أن الكتاب عن علاقة عبدالناصر والإخوان وقصة الصدام بينهما إلا أنه كان لازمًا الرجوع لموقف الإخوان قبل ثورة يوليو من الحركة الوطنية ومقاومة الاحتلال لتفسير موقف الجماعة بعد ذلك فى كل الأحداث ، وتحت عنوان «جذور الإرهاب» ذكر إمام الكثير من مواقف الجماعة المتعارضة تمامًا مع موقف الحركة الوطنية، ومنذ البداية وتأسيس الجماعة يذكر إمام «قصة الإخوان المسلمين الذين بدأوا فى الإسماعيلية وعلى مقربة من قوات الاحتلال قصة طويلة. فقد بدأوا قبل الثورة بسنوات كجمعية إسلامية صغيرة يدعو إليها حسن البنا تطالب بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وإقامة المساجد وبناء المدارس، وقد تبرعت لها شركة قناة السويس بخمسمائة جنيه لبناء أول مقر لها مما أثار اعتراض بعض الأعضاء لأن الشركة استعمارية على حد ما ذكره الشيخ حسن البنا فى مذكراته « وعندما اشتد الصراع بين الملك والوفد بعد معاهدة 36 ظهرت جماعة الإخوان على السطح قريبة جدًا من رجل الملك على ماهر باشا حتى إن مجموعة من أعضاء الجمعية رفضوا هذا الاتجاه، ووجهوا إلى المرشد إنذارا يطالبون فيه بقطع علاقة الجمعية بالملك وعلى ماهر. لكن البنا رفض الإنذار وطرد المعترضين، فقام أحدهم بكتابة مقال يوضح فيه أسباب الانقسام، ويذكر فيه أنهم خرجوا لأن الجمعية «موالية للقصر ولعلى ماهر وذكروا أسبابًا أخرى خاصة بالتلاعب ببعض الأموال وحمايته لبعض العناصر غير الأخلاقية». و يمضى المؤلف فى توضيح حقائق جلية لكل من عاش هذه الفترة وشاهد كيف تعامل الإخوان مع قضية الوطن واستقلاله: «كان الملك فى صراعه مع الوفد قد حاول إنشاء أحزاب سياسية تحاول امتصاص غضب وسخط الجماهير مثل حزب الشعب والاتحاد، ولكن هذه المحاولات فشلت فاحتضنت السراى جمعية الإخوان، وفى هذه الأثناء برز اتهام جمعية الإخوان المسلمين بأنها تتعاون مع إيطاليا، وأنها تتلقى الدعم المالى منها واستمر الإخوان المسلمون على علاقة «حميمة» مع الملك فاروق حتى إنها تخصص مؤتمرها الرابع لغرض وحيد هو الاحتفاء باعتلاء جلالته العرش»! وبعد احتفالات متنوعة ومتعددة تجمع الإخوان عند بوابات قصر عابدين هاتفين «نهبك بيعتنا وولاءنا على كتاب الله ورسوله»، وذكرت جريدة «البلاغ» فى 20 ديسمبر 1937 أنه عندما حضر النحاس باشا إلى القصر خرجت الجماهير تهتف «الشعب مع النحاس» فسير الشيخ البنا رجاله هاتفين «الله مع الملك» وتوالت صور ومشاهد تبعية البنا للملك وعداؤه للحركة الوطنية وتباعده عنها فكما يذكر المؤلف « دخلت جماعة الإخوان المسلمين معارك سياسية عنيفة ضد الوفد الذى كان يمثل الأغلبية الشعبية، وكانت زيارات البنا للأقاليم تقابل بهتاف «يسقط صنيعة الإنجليز»، بل وصل الأمر إلى حد أن واحدًا من السياسيين المرتبطين والمتحالفين مع الإخوان فى إحدى المراحل، وهو أحمد حسين مؤسس حركة مصر الفتاة كتب فى صحيفة حزبه فى 17 يوليو 1946 بعد أن شاهد ممارسات البنا وقادة التنظيم «إن حسن البنا أداة فى يد الرجعية والرأسمالية اليهودية وفى يد الإنجليز وصدقى باشا». التنظيم الخاص وفى الوقت الذى كانت فيه خطوات الجماعة تتباعد عن الحركة الوطنية المطالبة بالجلاء والاستقلال، كان البنا فى نفس الوقت يؤسس لتنظيم خاص ويمده بالسلاح، لا لأهداف تعلق بمقاومة الاحتلال، بل لتبقى للجماعة قوتها الخاصة القادرة على إرهاب الخصوم: «حرصت الجماعة على أن يكون لها فريق للجوالة، ورغم قوانين الكشافة تمنع الكشاف من الانتماء السياسى إلا أن جوالة الإخوان المسلمين كانت تمارس عملها ونشاطها، ومن بين صفوف الجوالة التقط أعضاء الجهاز الخاص، ودرب على مختلف الأسلحة، وكانت حرب 48 فرصة هذا الجهاز ليجمع الأسلحة، ويقول الدكتور حسن حميدة وكيل جماعة الإخوان: دخلت جماعة الإخوان عام 40 وبعد فترة لغاية سنة 46 فهمت من الأستاذ حسن البنا أن شبابًا من الإخوان يتدربون على السلاح، وحيث إن التدريب لا يبيحه القانون فكانوا يأخذون بعض الأماكن البعيدة فى قرى الصعيد وفى المقطم ويتدربون ثم بدأت منذ منتصف الأربعينيات موجة واسعة من الإرهاب بدأت بتفجير القنابل ثم اغتيال المستشار أحمد الخازندار وكيل محكمة استئناف مصر وهو خارج من منزله بحلوان فى طريقه للمحكمة. وفى عام 48 كان إرهاب الجماعة قد وصل إلى ذروته، ففى شهر إبريل من هذا العام انفجرت شحنة من الديناميت فى محل شيكوريل، وفى الشهر التالى وقع انفجاران فى محلى بنزايون وجاتينيو، وفى سبتمبر وقع انفجار شديد هائل فى الموسكى ترتب عليه انهيار أربعة منازل و20 قتيلًا وإصابة 66، وأعد عبدالرحمن عمار وكيل وزارة الداخلية لشئون الأمن مذكرة قال فيها «الجماعة ترمى إلى الوصول إلى الحكم بالقوة والإرهاب وأنها اتخذت الإجرام وسيلة لتنفيذ أهدافها فدربت شبابا من أعضائها أطلقت عليهم اسم الجوالة وأنشأت لهم مراكز رياضية تقوم بتدريبات عسكرية، وأخذت تجمع الأسلحة والقنابل والمفرقعات وتخزنها وساعدها على ذلك ظروف حرب فلسطين». فى هذا التوقيت - أواخر الأربعينيات - وبينما كان الوفد والقوى والوطنية وتحالف العمال والطلبة يخوض صراعًا ونضالًا وطنيًا من أجل الاستقلال كان الضابط الشاب « جمال عبد الناصر » يؤسس فى سرية شديدة تنظيم «الضباط الأحرار»، وجمعته لقاءات متعددة بكل القوى السياسية، وكان من بينها الإخوان. هدنة عبد الناصر والجماعة. عندما نجحت حركة الجيش فى الإطاحة بالملك كان غريبًا أن تكون «جماعة الإخوان» هى الحركة السياسية الوحيدة التى لم تصدر بيانًا لتأييد حركة الجيش، وانتظر المرشد العام وقتها حسن الهضيبى حتى يوم 28 يوليو ليصدر بيانًا بعد أن تأكد له تماما رحيل الملك فاروق عن البلاد. مع هذا التلكؤ المريب كان عبد الناصر راغبًا فى مد أواصر التعاون مع الجميع بما فيهم الإخوان، بل المثير أنه تعامل مع الإخوان فى بدايات الثورة تعاملًا خاصًا، فقد أعيد التحقيق فى مقتل حسن البنا، والقبض على المتهمين وتقديمهم للمحاكمة، وقد حكمت المحكمة بالسجن 15 سنة على الأميرالاى محمود عبدالحميد مدير المباحث الجنائية الذى دبر حادث الاغتيال، وفى أكتوبر 52 أصدرت المحاكم عفوًا عن قتلة المستشار أحمد الخازندار، وعن المحبوسين فى قضية اغتيال النقراشى باشا، وعن المحكوم عليهم من الإخوان فى قضية المدرسة الخديوية. بعدها أصدرت الثورة قرارًا خاصًا بالعفو الشامل عن كل الجرائم السياسية التى وقعت قبل 52، وقد بلغ عدد المفرج عنهم 934 مواطنًا معظمهم من الإخوان المسلمين، واستثنت الثورة من هذا القرار الشيوعيين على اعتبار أن الشيوعية جريمة اقتصادية وليست سياسية. وعلى عكس كل القوى والأحزاب التى طالبت فى بدايات الثورة بالدستور كانت جماعة الإخوان هى التى طالبت بالديكتاتورية، وفى أول ظهور قوى بعد الثورة لمفكر الجماعة سيد قطب الذى كتب فى جريدة «الأخبار» بعد أسبوعين من قيام الثورة، لقد احتمل هذا الشعب ديكتاتورية باغية طاغية شريرة مريضة مدة خمسة أعوام أو يزيد أفلا يحتمل ديكتاتورية عادلة نظيفة ستة شهور على فرض أن قيامكم بحركة التطهير يعتبر ديكتاتورية بأى وجه من الوجوه». مطالب الهضيبى واستمر «جمال عبدالناصر» مع بدايات الثورة فى تأكيد رغبته فى ضم الإخوان لتشارك مع غيرها من القوى فى رسم ملامح ما بعد رحيل فاروق، لكن الجماعة كانت كما كانت بعد ثورة يناير.. جماعة ترغب فى أن تكون حزبًا، وحزب لا ينفصل عن الجماعة.. ودعوة دينية فى خدمة الأهداف السياسية، وأهداف سياسية غامضة لا أحد يعرف ماذا تريد غير الكهنة فى مكتب الإرشاد. لقد طلب الهضيبى فى الشهور الأولى من الثورة من عبدالناصر عددًا من المطالب الغريبة، وكأن مصر كانت فى وادٍ والجماعة فى وادٍ آخر.. مثلا ألا يصدر أى قرار من مجلس قيادة الثورة إلا بعد الرجوع لمكتب الإرشاد والموافقة عليه.. ثم طلب ثانيًا أن يصدر مجلس قيادة الثورة بيانًا يُحرم فيه دخول السينمات والمسارح إن لم يغلقها بالفعل. كان عبدالناصر ومجلس قيادة الثورة والشعب المصرى يريدون البدء فى تحرير مصر من الاحتلال والفقر والهيمنة، وكانت الجماعة تطلب أشياء غريبة، وتعترض على قانون الإصلاح الزراعى، وتطالب بعدم تحديد ملكية أراضى أثرياء العصر الملكى.. لكن كل هذه كانت مناوشات ما قبل المعركة الكبيرة التى تجلت فصولها فى أعوام 54 و65 عندما دخل جمال عبدالناصر أشرس المواجهات مع جماعة أكدت مع الوقت عداءها للثورة والدولة والتحرر الوطنى.. وهى معركة يرويها عبدالله إمام بالتفصيل والوثائق فى باقى فصول الكتاب المثير الذى تقرأ فيه خيانات وخيابات الجماعة التى تحدث اليوم.. طبق الأصل! فى العدد القادم: ثورة يوليو تحل الإخوان.. والمخابرات الحربية تكشف الجماعة تحاول بث نشاطها داخل الجيش لتفكيكه ! تفاصيل «خطة اغتيال عبد الناصر» بعد فتاوى زينب الغزالى وسيد قطب وثائق مؤامرة 54 و56 لاغتيال الثورة بدعم خارجى، لماذا التفت المشنقة حول رقبة «زعيم التكفيريين الغامض؟».