نشر المصرفى الكبير هشام عز العرب رئيس البنك التجارى الدولى و رئيس اتحاد بنوك مصر مقالا فى عن "مفهوم الاستدامة " فى مجلة "البنوك "الصادرة عن اتحاد بنوك مصر.. نظراً لاهميته الكبرى نعيد نشره ..إلى نص المقال "تردد كثيرا فى الأونة الأخيرة مصطلح "الإستدامة"، أو "Sustainability" ،وهو فى مدلوله الظاهرى يعنى إستمرارية الأشياء، ولكن جوهره أعمق بكثير، إنه يعنى السياسات التى تضمن "البقاء" لجميع جوانب الحياة التى نخشى نضوبها ونسعى للحيلولة دون نفاذها. و يُخطئ البعض بقصر مفهوم الاستدامة على الأمور البيئية فحسب، لأن الاستمرارية ومبادئها تنطبق على كافة أنشطة الحياة من اقتصاد وعلوم وبيئة واجتماع مع اختلاف درجات تأثيرها. السبب وراء ربط كلمة الاستدامة بالعوامل والموارد البيئية فقط لأمرين الاول هو عدم الوعى الكافى بمدلول ومفهوم الإستدامة، وارتباط الإنسان منذ نشأته بالبيئة ، والاعتقاد السائد بأن البيئة ما خُلقت إلا لخدمته وليفعل بها ما يشاء حتى إذا أدى ذلك إلى أعلى درجات التعدى عليها، بدأ ذلك مع الثورة الصناعية، واستمر حتى اليوم وإن تعددت الأشكال. ومن الأسباب الأخرى، أن بدايات طرح مصطلح الاستدامة فى المجتمعات تناولت موضوع البيئة، وبالتحديد عام 1962، عندما نشرت العالمة راشيل كارلسون كتابها الشهير "الربيع الصامت" والذى كان بمثابة نقطة تحوّل فى الفكر البشرى حيث مهد لظهور الاستدامة، ولكن ليس بمفهومها الشامل. سلطت كارلسون الضوء على آثار الثورة الصناعية على البيئة، ونتائجها السلبية مثل اختفاء أنواع كثيرة من الطيور نتيجة الاستخدام المفرط للأسمدة، وقالت مقولتها الشهيرة :" كم أخاف أن يأتى الربيع القادم صامتا بلا طيور تغرد فى الغابة ، وتعج الصحراء بالجراد، ويتشوه منظر النجوم والقمر". ولذلك يجب أن نتفق أولا أن مصطلح الاستدامة واسع النطاق، لا يقتصر على جزء بعينه ويمكن تطبيقه على كافة أوجه الحياة. على سبيل المثال، عندما توفر المؤسسات التدريبات اللازمة لتنمية وتعزيز مهارات الموظفين فهى بذلك تهدف إلى الحفاظ على الكفاءات واستدامتها بالمؤسسة، والذى بدوره يساهم فى تحقيق نتائج إيجابية على صعيد الأداء العملى، وبالتالى الأرباح التجارية مع ضمان استدامتها. مثال آخر يبرهن على أهمية تطبيق مفهوم الاستدامة فيما يتعلق بالأمور الاجتماعية وهى المشروعات المرتبطة بالمسؤولية المجتمعية للشركات، مثل تنمية العشوائيات وإصلاح الطرق وتوصيل شبكات المياه والصرف الصحى والكهرباء. فلا جدوى من مشروع يُنفذ ولا تتم متابعته باستمرارية فيتدهور، ومن هنا تبرز أهمية "استدامة" المتابعة الدورية لضمان استمرار الأثر الإيجابى لهذه المشروعات على المجتمع والمواطنين. والسؤال الذى يجب طرحه، على من تقع مسؤولية تطبيق الاستدامة؟ البعض يرى أن الاستدامة هى مسؤولية الدول بكل أجهزتها الرسمية، فى حين يرى البعض الأخر أنها مسؤولية منظمات المجتمع المدنى وهناك فئة أخرى تعتقد أنها مسؤولية المؤسسات الخاصة الكبرى ومنها بالطبع المؤسسات المالية بكافة أنواعها وعلى رأسها البنوك. فى الحقيقة، الاستدامة هى مسؤولية كل مواطن، سواء منفردا أو تابعا لمجموعة أو مؤسسة. ومن هذا المنطلق، وهناك العديد من المؤسسات والشركات طبقت فكر "الإستدامة" بنجاح كبير، فلا توجد مؤسسة منفردة تستطيع نشر فكر الاستدامة مهما بلغت قوة هذه المؤسسة، ولكن إذا قامت كل المؤسسات الكبرى والشركات بالتعاون مع منظمات المجتمع المدنى بتطبيق الاستدامة ونشر الفكر فى المجتمع فمن المؤكد سيختلف الوضع كثيرا. الاستدامة فى شموليتها يجب أن تبدأ من المجتمع بجميع فئاته، وأن يدرك الجميع أهميتها للمجتمع بشكل عام، وللفرد بشكل خاص، ذلك لأن الفرد هو المتحكم الأول فى جميع الموارد المحيطة به، علما بأن الاستدامة تُبنى على ثلاث ركائز، وهى الاقتصاد، والمجتمع، والبيئة، ولا يستقيم الأمر إلا بمراعاة متغيراتها.. تعتبر الطاقة على سبيل المثال المؤثر الأساسى فى هذه الركائز والتى تدعم تطور الاقتصاد ورخاء المجتمعات من جهة، ولكنها تؤثر سلباً على البيئة من جهة أخرى. ويعد ارتباط الطاقة بالفرد ارتباطاً وثيقاً، ولذلك خفض استهلاك الطاقة مسؤولية عامة على كل أفراد المجتمع والمؤسسات كل بقدر استطاعته. وهناك العديد من المؤسسات المصرية التى بادرت بتعزيز قدراتها فى التحول للطاقة النظيفة، وتم نشر هذه الثقافة فى المجتمع فمن المؤكد النتائج ستكون مؤثرة سواء على المستوى الاقتصادى أو الاجتماعى أو البيئى، ويجب على الجميع التكاتف من أجل الحفاظ على البيئة وتنميتها وتطوير مواردها والا سيكون هناك خطر يهدد العالم. أول الأصوات التى نادت بأهمية تطبيق مفهوم الاستدامة عام 1983 حين اجتمعت اللجنة العلمية المعنيّة بالبيئة والتنمية برئاسة "غرو هارم برونتلاند" بناءا على طلب من الأممالمتحدة، ونتج عن هذا الاجتماع تقرير "مستقبلنا المشترك" والذى نُشر بعد الاجتماع بأربع سنوات لتصبح بذلك الوثيقة "الأم" للإستدامة ، ومنها ظهر لأول مرة مصطلح الإستدامة للعامة، وبدأت الافكار تنتشر وتتبناها المؤسسات والجمعيات. ومن الأفكار المستمدة من تقرير "مستقبلنا المشترك" أن البيئة والاستدامة ليست تحديات منفصلة ولكنها أهداف متصلة، حيث أن التنمية لا يمكن أن تكون على حساب تدهور الموارد البيئية، فالاقتصاد والبيئة يجب أن يتكاملا فى عملية صناعة القرار وعمليات سن القوانين، خاصة وأنهما مرتبطان بعوامل اجتماعية وسياسية. الخلاصة من كل ما سبق أن الاستدامة تحقق احتياجاتنا فى الحاضر، مع الحفاظ على حقوق الاجيال القادمة فى المستقبل.، وبذلك فالثلاث محاور الأساسية للاستدامة هى "الانسان" من خلال تحقيق العدالة الاجتماعية، و"البيئة" فى الحفاظ على الموارد الطبيعية ومحاولة احيائها، و"التنمية الاقتصادية". فى النهاية، لا يمكن أن نتعامل مع الاستدامة على إنها جزء منعزل عن الكل، ولكن علينا النظر بصورة أوسع وأشمل لرؤية باقى التفاعلات والقيم لأن هناك دائما عواقب غير مقصودة فى كثير من الأحيان. ومن هنا تأتى ضرورة نشر الوعى وثقافة الاستدامة فى المجتمع عن طريق المؤسسات و الجمعيات، إلى جانب دور الدولة، والتواصل المستمر بين جميع دول العالم، فنحن لانتحدث عن فكر تختص به دولة ، ولكن الاستدامة تعنى الحفاظ على كوكب الأرض