«العمل» تكشف تفاصيل توفير وظائف زراعية للمصريين باليونان وقبرص دون وسطاء    تحديث بيانات منتسبي جامعة الإسكندرية (صور)    الحكومة تبحث التوسع في برامج الحماية التأمينية والصحية للعمالة غير المنتظمة    لمدة 4 ساعات.. قطع المياه عن هضبة الأهرام بالجيزة اليوم    سكرتير عام البحر الأحمر يتفقد حلقة السمك بالميناء ومجمع خدمات الدهار    العدل الدولية: برنامج الأغذية أصبح عاجزا عن إيصال المساعدات إلى رفح الفلسطينية    مجلس النواب الأمريكي يعتزم فرض عقوبات على أعضاء المحكمة الجنائية الدولية بسبب الموقف من إسرائيل    الأمم المتحدة تحذر من انتشار اليأس والجوع بشكل كبير فى غزة    عمليات حزب الله دفعت 100 ألف مستوطن إسرائيلي للنزوح    إستونيا تستدعي القائم بأعمال السفير الروسي على خلفية حادث حدودي    الدفاع الروسية: 67 جنديا أوكرانيا استسلموا خلال أسبوع    نهائي دوري أبطال إفريقيا.. الأهلي يرتدي زيه التقليدي والترجي بالأزرق    عاجل.. برشلونة يلبي أولى طلبات فليك    القناة المجانية الناقلة لمباراة الأهلي والزمالك في نهائي دوري كرة اليد    عاجل:جدول امتحانات الثانوية الأزهرية 2024 للشعبتين علمي وأدبي.. كل ما تريد معرفته    الترقب لعيد الأضحى المبارك: البحث عن الأيام المتبقية    في ثاني أيام عرضه.. فيلم "تاني تاني" يحقق 81 ألف جنيه    بعد جائزة «كان».. طارق الشناوي يوجه رسالة لأسرة فيلم «رفعت عيني للسما»    بعد تلقيه الكيماوي.. محمد عبده يوجه رسالة لجمهوره    أعضاء القافلة الدعوية بالفيوم يؤكدون: أعمال الحج مبنية على حسن الاتباع والتسليم لله    «الرعاية الصحية» تشارك بمحاضرات علمية بالتعاون مع دول عربية ودول حوض البحر المتوسط (تفاصيل)    قوافل جامعة المنوفية تفحص 1153 مريضا بقريتي شرانيس ومنيل جويدة    «العدل الدولية» تحذر: الأوضاع الميدانية تدهورت في قطاع غزة    ضبط قضايا اتجار بالعملات الأجنبية بقيمة 11 مليون جنيه في 24 ساعة    بعد ظهورها بالشال الفلسطيني.. من هي بيلا حديد المتصدرة التريند؟    فيلم "شقو" يواصل الحفاظ على تصدره المركز الثاني في شباك التذاكر    متي يحل علينا وقفة عرفات وعيد الأضحى 2024؟    مبابي يختتم مسيرته مع باريس سان جيرمان في نهائي كأس فرنسا    المفتي يرد على مزاعم عدم وجود شواهد أثرية تؤكد وجود الرسل    أوقاف القليوبية تنظم قافلة دعوية كبرى وأخرى للواعظات بالخانكة    عائشة بن أحمد تكشف سبب هروبها من الزواج    محافظ أسيوط يتابع مستجدات ملف التصالح في مخالفات البناء    التنمية الصناعية تبحث مطالب مستثمري العاشر من رمضان    التعليم العالي: جهود مكثفة لتقديم تدريبات عملية لطلاب الجامعات بالمراكز البحثية    الأزهر للفتوى يوضح أسماء الكعبة المُشرَّفة وأصل التسمية    الأهلى يكشف حقيقة حضور إنفانتينو نهائى أفريقيا أمام الترجى بالقاهرة    أبرزها قانون المنشآت الصحية.. تعرف على ما ناقشه «النواب» خلال أسبوع    مدير جمعية الإغاثة الطبية بغزة: لا توجد مستشفيات تعمل فى شمال القطاع    اكتشاف فيروس إنفلونزا الطيور H5N1 في الأبقار.. تحذيرات وتحديات    وزارة الداخلية تواصل فعاليات مبادرة "كلنا واحد.. معك في كل مكان" وتوجه قافلة إنسانية وطبية بجنوب سيناء    أول جمعة بعد الإعدادية.. الحياة تدب في شواطئ عروس البحر المتوسط- صور    بالأسماء.. إصابة 10 عمال في حريق مطعم بالشرقية    الإفتاء: الترجي والحلف بالنبي وآل البيت والكعبة جائز شرعًا في هذه الحالة    "العد التنازلي".. تاريخ عيد الاضحي 2024 في السعودية وموعد يوم عرفة 1445    الشرطة الإسبانية تعلن جنسيات ضحايا حادث انهيار مبنى في مايوركا    وزير الري: إفريقيا قدمت رؤية مشتركة لتحقيق مستقبل آمن للمياه    تعشق البطيخ؟- احذر تناوله في هذا الوقت    الإسكان تتابع جهود قطاع المرافق لتعظيم الاستفادة من الحماة المنتجة من محطات معالجة الصرف الصحي    أبرزها التشكيك في الأديان.. «الأزهر العالمي للفلك» و«الثقافي القبطي» يناقشان مجموعة من القضايا    الأكاديمية العسكرية المصرية تنظم زيارة لطلبة الكلية البحرية لمستشفى أهل مصر لعلاج الحروق    مران صباحي ل«سلة الأهلي» قبل مواجهة الفتح المغربي في بطولة ال«BAL»    الإسكان: تشغيل 50 كم من مشروع ازدواج طريق «سيوة / مطروح» بطول 300 كم    رئيس الأركان يتفقد أحد الأنشطة التدريبية بالقوات البحرية    "التروسيكل وقع في المخر".. 9 مصابين إثر حادث بالصف    "تائه وكأنه ناشئ".. إبراهيم سعيد ينتقد أداء عبدالله السعيد في لقاء فيوتشر    النشرة المرورية.. سيولة فى حركة السيارات على محاور القاهرة والجيزة    حظك اليوم برج العقرب 24_5_2024 مهنيا وعاطفيا..تصل لمناصب عليا    خالد جلال: جوميز ركز على الكونفدرالية فقط.. وهذه نصيحتي لفتوح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حجازى
نشر في الفجر يوم 28 - 10 - 2011


كان لحجازى طقوسه الخاصة فى الحياة.. فهو محدد ويعرف

ما يريده من الدنيا


فى صمت الحكماء.. وترفع النبلاء.. عاش حياة صنعها بنفسه.

وفى صمت الفنانين العظام.. وعبقرية الرواد.. رسم فأبدع.

وفى صمت الفقراء.. وسمو الفرسان.. أعطى بلا حدود.

وفى صمت المتصوفين.. وزهد الأنبياء.. غادر القاهرة عائداً إلى طنطا.

وفى صمت الأبطال.. تحمل آلامًا نفسية وجسدية.. فوق طاقة البشر.

وفى صمت الشهداء.. رحل حجازي.. موصياً إخوته البنات ألا يعلن عن وفاته إلا بعد أن يواريه التراب.

أى طراز من الرجال أنت حجازي..

وكيف تواتيك الجرأة على أن تفعل بنا ذلك.. وتمضى هكذا وحدك:

«كم كنت وحدك..

يا ابن أمي..

يا ابن أكثر من أخي..

كم كنت وحدك..»

هكذا عاش حجازى فى صمت.. وهكذا مضى فى صمت..

كنت أهاتفه فى الأيام الأخيرة.. لأحدد موعداً للزيارة.. فيقول:

- لن تسعد بلقائى إذا حضرت.. فلا داعى لحضورك.. فأنا لم أعد أنا.. فإذا حضرت فلن تجدني!!

وكنت أسأل زميلنا فى دار روز اليوسف «عبد العزيز خطاب»:

- حجازى رافض استقبال أى حد.. ليه؟!

فيجيبنى «عبدالعزيز» الذى رافق حجازى عبر رحلته الطويلة وكنا نسميه «مرسال الغرام» بين حجازى وكل عشاقه وأصدقائه ومريديه:

- الأستاذ تعبان جداً.. ولا يغادر الفراش مطلقاً.. وهو لا يريد أن يراه أى أحد وهو بهذه الصورة.. أنت إذا رأيته لن تعرفه!!

كان يتألم فى صمت.. ويمتص المرض وجناته المترعة بالحياة..

ويطفئ الألم بريق عينيه التى كانت تلتمع بالعشق للبسطاء.. وكانت أحواله المالية فى تدهور عام.. بعد عجزه التام عن العمل.. وانقطاع الرزق.. ومع الترفع وسمو النفس.. كان لا يمكن الاقتراب من منطقة «إعانته».. وكان أخواته يحذرن من ذلك أشد التحذير بناء على تعليماته القاطعة والمشددة فيضطررن لأن يستكملن أسباب المعيشة والحياة.. من مواردهن الذاتية الخاصة وهن أيضاً من البسطاء اللاتى دافع عنهن حجازى.. ووهب لهن عمره.. وعاش من أجل إخوته.. فكيف يخالفن تعليماته.. وكيف لا يوفرن له كل شيء من طعام ودواء وعلاج مكلف.. تدهورت الأمور بسرعة عندما كنت فى مهمة عمل خارج مصر مديراً لقناة الجزيرة للأطفال بالدوحة.. وعندما عدت لجريدة روز اليوسف، عرفت.. تحدثت للصديق د. عماد أبوغازي، وزير الثقافة، عن إمكانية توفير منحة تفرغ له.. فوافق على الفور.. فأعددت الطلب وملف منحة التفرغ حول «الفكاهة الشفاهية.. والرسوم الكاريكاتورية الشعبية فى دلتا مصر».. وأوشكت الإجراءات على الانتهاء.. وكانت بداية الصرف الشهر المقبل.. وكان د. أبو غازى بالاتفاق مع جمعية الكاريكاتير ومحافظة الغربية اتفقوا أن نقيم له معرضاً.. وبدأ الفنان جمعة فرحات.. والفنان سمير عبدالغنى فى التحرك وبدأت اختار اللوحات وأعالج الرسوم الصغيرة بعمل مستنسخات مكبرة.. لمعرض عام لأعمال حجازي.. ولكن حجازى العنيد الذى رفض من قبل حضور كل الاحتفاليات التى أقيمت له..

رفض ايضاً أن يحضر معرضه الذى نعده له.. وتركنا جميعاً ورحل..

الإنسان

قد يكون من غير المجدى الآن الحديث عن حجازى الفنان فرسومه التى ملأت الصحف خلال اليومين الماضيين تذكرنا جميعاً بقيمته الفنية.. ونؤكد تفرده باعتباره أحد أهم الرواد المؤسسين لفن الكاريكاتير المصري.. والكتاب الذى أصدرته وضم مجموعة كبيرة من رسوماته.. سبقته مقدمة فى شكل دراسة موسعة عن أعماله.. وكان ذلك عام 1995.

ورغم أهمية الحديث عن رسومه الرائعة.. وكائناته المدهشة إلا أن الحديث عن حجازى الإنسان قليل جداً.. ومن اقتربوا من حجازى بالقدر الكافى لرؤيته بلا رتوش.. يعلمون تماماً أسرار عالم حجازى الغامض والمجيد فى ذات الوقت.. لكن من سمح لهم حجازى من اقتحامه والاقتراب منه بهذا القدر الكافئ لمعرفته.. قليلون جداً.. وربما يعدون على أصابع اليدين دون مبالغة.. لأن حجازى فنان مرهف.. وإنسان ذو طبيعة خاصة جداً.. نادراً ما يحرك شفتيه ليتكلم إلى أحد.. لا يهاتف أحدًا.. ولا يرد على أحد إلا نادراً.. له عالمه الخاص الذى نجح فى تحديد ملامحه.. ورسم حدوده فى بساطة متناهية.. ودقة صارمة فى ذات الوقت.. ويبدو أن صمت حجازى أخذه عن والده.. فوالده كان صامتاً دائماً.. ونادراً ما يتحدث حجازى عن نفسه أو عن والده.. فإذا تحدث فببساطة مفرطة.. واعتزاز كبير ويحكى حجازى عن صمت والده الذى كان سائقاً للقطارات فيقول:

«.. أبى صامت مثلي.. ولكنه كان يكلمنى أحياناً عن الأوضاع فى عمله وكان يكتب شكاوى كثيرة لمظالم يتعرض لها فى العمل.. وأحياناً يقرأ لى بعضاً من شكاواه عن تأخر قطاره دقيقتين مثلاً لأنهم فى الورشة لم يسمعوا نصيحته بضرورة إصلاح «الباكم».. كانت مشاغبات صغيرة.. لكنه كان يكتبها باهتمام واعتزاز بمعرفته بالكتابة بخط جميل. يحلق دقنه ثم يكتب الشكوى شاعراً أنها أهم شيء فى حياته.. وفى فترة الصيف يصحبنى أبى معه فى القطار «أبو فحم» وأبيت معه فى استراحات السكة الحديد.. رأيت مصر كلها عبر نافذة القطار.. أجسام السائقين المكدسة على الأسرة.. الأكل على ورق الجرايد.. طعمية وجرجير غير مغسول جيداً».

ملامح إنسانية

كان لحجازى طقوسه الخاصة فى الحياة. فهو محدد للغاية يعرف ما يريده من الدنيا.. فلم يطمع يوماً فى أن يأخذ أكثر مما كان يريده بالتحديد.. فى تمام السادسة صباحاً يكون على مكتبه فى مجلة «صباح الخير».. يخرج الأقلام وأوراقه البيضاء يشرب القهوة ويدخن بشراهة بلا توقف.. قبل أن تأتى الثامنة يكون قد انتهى من كل أعماله.. يغادر مبنى روز اليوسف قبل أن يمتلأ بالموظفين والكتاب والمحررين.. ينطلق فى شوارع القاهرة.. عينه الراصدة كزرقاء اليمامة تلتقط مالا نراه نحن البشر العاديين هو يرى أكثر منا.. وأبعد منا.. ينتقى ويختزن ويملأ ذاكرته بآلاف الصور والمواقف والشخصيات.. يجلس على مقاهى مصرية بعينها يرتادها مصريون بسطاء ولكنهم حقيقيون.. مرة فى مقهى «إيزافيتش».. ومرة فى «قهوة البرابرة».. ومرة فى «الكاب دور».. بعض هذه الأماكن ازيلت وبعضها تغير نشاطه وتحول إلى شركات سياحية.. وبعضها ظل كما هو.. ولكنها أماكن فقدت هويتها وملامحها الحقيقية.. لذلك فى نهاية الثمانينيات قرر أن يستيقظ فى السادسة صباحاً ويجلس إلى مكتبه فى منزله بالمنيل.. يرسم ويأتى «عبدالعزيز خطاب» يأخذ الرسومات ويحضرها إلينا فى مجلة «صباح الخير».. وبدأ فى عزلة اختيارية.. لا يستقبل أحدًا طوال الأسبوع.. وصباح الأحد يفتح باب شقته للجميع من أراد أن يرى حجازى فاليأتى فى «اليوم المفتوح».. تجلس عند حجازى كل يوم أحد فتجد مائدته عامرة بكل أنواع اللحوم والدواجن والأسماك وفواكه البحر.. إنه كريم بلا حدود.. وبسيط بلا اصطناع.. يفعل ما يجب أن يفعله.. ولا يستطيع أحد أن يجبره على شيء.

جاء ذات يوم إلى مكتبه فى مجلة صباح الخير.. وكان رئيس مجلس الإدارة عبدالعزيز خميس.. وكنت أجلس مع حجازى وهو يواصل رسم لوحاته وطلبنى رئيس مجلس الإدارة وسألنى عن حجازي.. فقلت له موجود.. فقال سأحضر فوراً لأراه.. فلم يكن قد رآه من قبل وقالوا له وإنه يأتى فى السادسة صباحاً ويغادر فى الثامنة.. وسألنى حجازى من الذى كان يتحدث معك.. فقلت له الحكاية.. فما كان من حجازى إلا أنه لملم أوراقه وأقلامه بسرعة.. وأخذها معه.. وقال لى أرسل لى عبدالعزيز خلال ساعة سأكون قد انتهيت من الرسومات.. قلت له والاستاذ خميس ماذا أفعل معه؟! ضحك قائلاً: اجلس معه أنت.. واطلب له قهوة على حسابي.

أنا فى حياتى لم أر رئيس مجلس إدارة.. ولست على استعداد أن أجالسه.. سلام.

ومضى حجازي.. وجاء عبدالعزيز خميس بعد دقيقة واحدة فلم يجده.. تعجب وراح يسألنى عن أسباب عدم انتظاره له.. فقلت له إنه حجازي.. ولا أحد يستطيع أن يجبره على شيء.. ولا تعليق لدي!!

ذات يوم زرته ومعى د. عبدالرحمن بسيسو سفير فلسطين فى بلاد التشيك الآن.. وكان ذلك فى نهاية الثمانينيات حين كان بسيسو بصدد إصدار مجلة للأطفال تسمى «فرح».. وكان معنا رجل الأعمال رفيق عبدالناصر شقيق الرئيس الراحل الأصغر.. وعرضنا عليه العمل فى المجلة.. وقال له بسيسو كلاماً طيباً.. ووعده بأن كل طلباته مجابة.. وتحدثنا جميعاً.. وأطلنا فى الحديث والإغراءات.. وظل حجازى صامتاً يضايفنا بأدب جم.. ويضع المأكولات والمشروبات بانتظام.. وفى نهاية اللقاء تحدث حجازى بعد صمت طويل فقال:

- بصراحة أنا حالياً عندى شغل بأعمله لمجلة ماجد.. وبعد ما بشتغل باخد الفلوس التى اشتغلت بها لكى استمتع بصرفها.. وكل الوقت المخصص للشغل يستنفد فى رسوماتى لمجلة ماجد.. ولا يصح أننى بعد أن اشتغل.. أشتغل مرة أخري.. الإنسان بعدما يشتغل ياخد الفلوس التى اشتغل بيها ليدخل بها سينما ويشاهد «مسرح».. ويأكل ويشرب وينبسط!!

هذا هو حجازى الذى يعرف ما يريد.. ويعمل ما يحب.

أنا مش رسام مهم!!

جاءت فكرة عمل كتاب أضم فيه أعمال حجازى وأوثقها عبر سببين رئيسيين.. الأول: عشقى الشديد لحجازى ورسومه من قبل أن التقى به واقترب منه بالدرجة التى توقعك فى حبائله وتصبح من ضحاياه ودراويشه.. والسب الثاني: ظهر عندما توليت مسئولية المدير الفنى لمجلة «صباح الخير» عام 1980 .. ومنذ ذلك يوم وجدت أن هناك معركة تدور فى صمت بين عدة أفراد من أجل الحصول على أصول رسومات حجازى والاحتفاظ بها واقتنائها.. لجمالها الآخاذ.. وروعة ريشته.. خاصة أن لوحاته الأصلية كانت شديدة الدقة فهو بارع فى تصميم لوحاته وخاصة ما أطلقت عليها فى كتاب «منمنمات حجازى المصرية». وكان فرسان هذه المعركة.. شيخ رسامى الكاريكاتير «زهدى العدوي» الذى كان يأتى كل صباح إلى قسم تجهيزات الأوفست بالدور الرابع ويجمع أصول كل الرسامين ويقتنيها ويأرشفها بعناية.. وبين المهندس عزيز المصرى رئيس قسم التجهيزات الذى كان يعشق حجازى إلى حد الهوس وكان من أصدقائه المقربين.. أما الفارس الثالث فهو رفيق عمره الشاعر فؤاد قاعود الذى كان يعتبر أنه هو الأحق بلوحات حجازى خاصة التى كانت ترسم خصيصاً مصاحبة لأشعاره.. أما صاحب هذه الرسومات وهو حجازى نفسه فلم يحتفظ فى حياته بأى لوحة رسمها.. وكان يقول لى:

- أعوذ باللّه.. وهل أعلق رسومى أمامى على الحائط لأرها كل يوم!!

وعندما تأملت هذا المشهد المركب اكتشفت أن حجازى هو رسام الكاريكاتير الوحيد الذى ستندثر رسومه، ولن يصبح لدينا أى مرجعيات لتوثيق أعماله المهمة التى كنت أرى أنها تسجل «التاريخ السرى للإنسان المصرى البسيط». وأنها سجل اجتماعى وسياسى واقتصادى لحقبة امتدت أكثر من أربعين عاما من العطاء بدأت عام 1955 .. وحتى يوم صدور الكتاب 5591.

وعندما راودتنى الفكرة كان ذلك فى بداية عام 1990 ورحت أجمع لوحاته على مدى خمس سنوات، إلى أن اكتملت لدى مجموعة تمثل مجمل عطائه عبر 40 عاماً.. وكان البحث عن هذه الأصول وتبويبها أمراً يكاد يكون مستحيلاً ناهيك عن المشقة.. والتعب اللذيذ.

وفى النهاية كان لابد من عمل دراسة فى بداية الكتاب.. وإطلالة على مسيرة حياته.. فطلبت منه مراراً أن أجلس معه وأسجل قصة حياته كما يرويها هو لكى تكون وثيقة للأجيال القادمة.. ولكنه كان يتهرب منى دائماً.. ويحاول إثنائى عن عزمي، وتثبيط همتي، وكلما التقينا وتحدثنا عن الكتاب يواجهنى بتعليق ساخر فيقول: «.. ولماذا نكسر القاعدة وتصدر كتاباً عنى وأنا حي.. وعادة فى مصر تصدر الكتب لتكريم الموتي.. فأجل كتابك إلى أن أموت ثم أفعل ما تشاء».

وكنت أعلم أن الاستاذ صلاح عيسى قد سبقنى فى محاولة انتهت باليأس والفشل من أجل إصدار كتاب لحجازى عن مجمل أعماله التى نشرت فى جريدة الأهالى أسوة بكتاب الفنان «بهجت عثمان» الذى أصدرته جريدة الأهالي.. ولكننى لم أيأس وكنت أحس أن ما أقوم به هو مهمة وطنية لجمع تراث حجازى وحفظه من الضياع ووضعه فى ذاكرة وضمير الأمة.. كنت قد توقفت عن كتابة الدراسة وعمل حوار معه.. إطلاعه على تفاصيل الكتاب وتبويبه.. وتكرت اللقاءات.. وفى النهاية أرسلت له رسالة مكتوبة شعراً أطلب منه فيها تلبية طلبى وعاتبته ساخراً فيها بأنه يتهرب مني.. فرد على شعراً بهذه العبارات:

الصديق العزيز/محمد بغدادي

تحياتى وتمنياتى بالصحة والتوفيق وشكراً على رسالتك الشعرية الرقيقة.. وشكراً على الكتب التى أرسلتها لى وقريباً سوف اتصل بك لتحديد موعداً أراك فيه لأنك واحشنى جداً.. وأنا طبعاً مش قافل الباب فى وجه الأحباب أبداً.. وبالمناسبة:

أنا مش بعيد، ولا بتبغدد، كله إلاّ دى مين ده اللى يقدر يبتغدد على بغدادى وشكراً لك وإلى اللقاء.

حجازي

وعندما طلبت منه أن أحضر جهاز التسجيل ونبدأ فى عمل الحوار أرسل يقول لى:

«يا بغدادى أشكرك على رقتك واهتمامك وطبعاً يسعدنى أن آراك فى أى وقت لكن بلاش جهاز التسجيل لأنى بصراحة مش شايف إنى رسام مهم ولا أى حاجة، الحكاية كلها إنى جيت من طنطا للقاهرة أشوف شغلانة آكل منها عيش وسجاير وطلعت الشغلانة فى الصحافة لأنى كنت وأنا فى ثانوى بعرف أرسم شوية.

بس كده..

تحياتى وحبى لك. وإلى اللقاء»

حجازي

إلى هذا الحد من التواضع كان حجازى عازفاً عن التكريم وقد روى لى حكاية عن عدم احتفاظه بأصول لوحاته فقال:

«كنت أيام الزواج.. كانت زوجتى (وهى السيدة سلوى المغربي) بدأت فى جمع أصول رسوماتى وعمل أرشيف لها وملفات.. وكنت لا أرغب فى ذلك.. فلما انفصلنا أخذت هذه الملفات وألقيتها فى القمامة على باب شقتى بالمنيل فجاء جامع القمامة فوجدها مرتبة فشك فى الأمر.. فدق جرس الباب وقال لى لقد وجدت هذه الرسوم على الباب ربما تركها أحد لك.. فقلت له ضعها على المكتب.. فوضعها.

وبدأت كل يوم أمزق كل ملف إلى قطع صغيرة وألقيها فى القمامة حتى لا يردها لى الرجل مرة آخري!!.

هكذا كان حجازى ذلك الفنان العظيم يتعامل مع رسوم بهذا القدر الذى لا يمكن فهمه!! إلا إذا عرفنا لماذا كان حجازى يرسم إنه كان يريد أن يغير الواقع برسومه فقد قال لى عن علاقته برسومه:

«إن علاقتى باللوحة تنتهى تماماً بمجرد أن أنتهى منها.. وبعد أن تنشر لا أتأملها.. ولا أنظر إليها مطلقاً.. وأشعر أحياناً بأننى فى غاية الخجل عندما أطالع رسومى وهى مطبوعة فى المجلات، لذلك لا أتوقف أمامها وأعبر صفحاتها دون أن أراها»!!.

والتحول المفاجئ

ظلت علاقة حجازى برسومه على هذه الوتيرة.. وأذكر أننى بعد أن انتهيت تماماً من إخراج الكتاب وتبويبه وكتابة المقدمة.. أخذت كل الرسوم و(الماكيت).. والغلاف وذهبت إلى حجازى بالمنزل.. وكان يجلس معه الزملاء الكاتب الصحفى عادل حمودة.. والفنان عبدالعال.. والفنان طه حسين.. ودخلت ووضعت كل عناصر الكتاب على الطاولة.. وقلت له لابد أن تلقى ولو نظرة أخيرة على محتويات الكتاب.. فنظر إليّ بدهشة شديدة وقال لي: أى كتاب تقصد؟!

قلت له: كتابك.. رسومك؟

فقال لى: لملم أوراقك أنا لا أريد كتبًا وهذا كتابك أنت إذا كنت مصمماً على عمله فهذا شأن خاص بك!

فقلت له: طيب.. أرجو أن نتفق على اسم الكتاب..

فقال: وهذه أيضاً أمور ليس لى دخل بها..

وعرضت الأمر على الصديق عادل حمودة.. وكنت قد قررت أن يكون عنوان الكتاب «كاريكاتير حجازي».. فتأمل حمودة العنوان قليلاً واقترح إضافة صفة للفنان حجازي.. وقال لي:

فليكن «كاريكاتير حجازى.. فنان الحارة المصرية». وبالفعل كان اقتراحه رائعاً.. وقبل أن أغادر منزل حجازى طلب حمودة منى بعض الرسومات.. وجزء من المقدمة لينشرها على أربع صفحات كاملة فى مجلة روز اليوسف إذ كان هو رئيس التحرير الفعلى آنذاك للمجلة وبالفعل كانت مجلة روز اليوسف أول مجلة تحتفى بكتاب حجازى على هذا النحو الرائع.. وتوالت الصحف فى مصر وخارج مصر تواصل الاحتفاء بهذا الكتاب ليس لأننى بذلت فيه جهدًا كبيرًا.. لكن لأننى نجحت فى إقناع حجازى فى أن يكون له كتاب يضم أعماله.. وللأسف الشديد أن المجلة الوحيدة التى لم تنشر سطراً واحداً عن كتاب حجازى هى مجلة «صباح الخير» التى كان حجازى وأنا نعمل بها.. وكان رئيس التحرير وقتها «رءوف توفيق» الذى قال لى عندما قدمت له نسخة هدية من الكتاب لم ينظر إلى الإهداء إنما نظر إلىَّ قائلاً:

«إن كنت عايز تكتب خبرًا عن الكتاب.. اكتبه أنت وهاته علشان أنشره.. بس يكون خبر صغير»!! قلت له: أعتقدت أنك صديق حجازى فجئت لك بنسخة منه هدية.. ولا أريد أن أنشر هنا أى شيء عن الكتاب فقد نشرت عنه كل الصحف والمجلات مصرية وعربية وعشرات المقالات.. وتم الاهتفاء بحجازى بطريقة تليق بهامته العظيمة!!

وكل هذا قد لا يهم الآن.. ولكن الأهم هو التحول الذى حدث فى حياة حجازي.. فقد فوجئت به يدعونى لسهرة خاصة ليحتفل بصدور الكتاب بعد أن تلقى مكالمات تليفونية من عدد كبير من كبار الرسامين والفنانين والمفكرين المصريين والعرب يهنئونه على الكتاب.

فذهبت إليه وسهرنا نتجاذب أطراف الحديث وأردت أن أسأله عن رأيه.. فقال لي:

- لقد كنت مثل الكلمات المتقاطعة حروف متفرقة لا معنى لها.. الآن أصبحت جملة مفيدة.. وضحكنا.. وتداعت الأحاديث حول الفساد والظلم والنهب المنظم الذى تعيشه البلاد..

فانتابتنى حالة من الاكتئاب.. فنظر إلى ساخراً:

- لا.. أنت حاتكتئب من أول الليلة.. إحنا جايين هنا علشان نحتفل..

فقلت له: إننى خائف على مصير مصر وماذا بعد؟!

فقال ضاحكاً:

- لأ.. لا تخاف على أى شيء فى مصر.. مصر طول عمرها يحدث لها ما هو أفظع من ذلك.. وتظل مصر باقية ويزول الظلم بحكامه.. ولو رجعت إلى كتاب «النجوم الزاهرة فى سماء مصر والقاهرة» ستجد أن كل ما يحدث لنا الآن سيأتى فى سطر واحد يقول: (وقد حكم مصر حاكم ظالم اسمه حسنى مبارك من سنة 1981 حتى عام.. كذا...) وستبقى مصر هى مصر رغم كل شىء.

وفى نهاية السهرة.. وأنا أغادر منزل حجازى مع نسمات الصباح الباكر.. قال لى ونحن على باب الشقة.. خذ هذه الأشياء معك فأنت الوحيد الذى يمكن أن أئتمنه عليها.. فنظرت إلى ما يشير إليه فوجدت بعض الملفات الملفوفة بعناية.. فحاولت أن أرى ما بداخلها.. فقال لى بعدين!! فسألته ماذا بداخلها.. فقال لى: أنا لا أعرف خذها لقد كانت عند أخت المهندس عزيز المصرى وحاول أن يتركها لى قبل أن يهاجر إلى استراليا.. فرفضت كما تعلم.. فقال لى إنه سيترك هذه الرسومات لدى أخته ببورسعيد وأعطانى العنوان.. وقال لى ربما يأتى يوم ما شخص تستأمنه على رسومك.. وأعتقد أنك هذا الشخص لقد سافرت بالأمس وأحضرتها بنفسى من بورسعيد.. فهى لك.. بعد هذا الكتاب أعتقد أن من حقك أن تحتفظ بها.

وهذا التحول الذى أصاب حجازى ما كان يمكن أن يحدث لولا أن هذا الكتاب صدر فى توقيت أعتقد أنه عبقري.. ولكن للآسف توقف حجازى بعد ذلك عن الرسم للكبار وقال لي: إنه لم يعد لديه أمل فى الكبار.. وأمله كله فى هذه الأجيال الجديدة فربما تصنع شيئاً مفيداً.. وبالفعل عاش حجازى حتى رأى الجيل الذى رسم له فى مجلة سمير وماجد يغير وجه الواقع.. لأننى سألت حجازى سؤالاً محدداً.. لماذا نتوقف أحياناً عن الرسم.. فقال لى سأحكى لك حكايتين بعد كل منهما توقفت لفترة طويلة..

الأولى: كنت قادماً من منزلى فى المنيل قاصداً مكتبى فى صباح الخير.. وكانت هناك جمعية تعاونية فى شارع أمين سامى وكان ذلك فى منتصف السبعينيات وكان حسن فؤاد رئيساً للتحرير.. ووجدت طوابير الناس الفقراء يقفون منذ ساعات قبل أن تفتح الجمعية أبوابها من أجل الحصول على دجاجة مجمدة وليس للمواطن الحق فى أخذ دجاجتين.. وعندما مررت على شارع «أفراح الأنجال» وهو المتاخم لمؤسسة روزاليوسف حيث يوجد الباب الخلفى للجمعية اكتشفت أن هناك عربات مديرى المصالح الحكومية تقف والسائقون يضعون فراخ الجمعية بالكرتونة فى السيارات الحكومية وعرفت أن هذه الفراخ المدعومة يذل عليها المواطن ويأخذها الكبار.. فتوجهت إلى مكتبى ورسمت مجموعة من الكاريكاتير اللاذع جداً أدين به هذا الفساد.. وكانت رسومًا ساخنة جداً وعندما عرضتها على حسن فؤاد وهو الاشتراكى واليسارى المنحاز مثلى إلى الفقراء وهو الذى سجن فى معتقل الواحات من أجل هؤلاء الفقراء.. فما كان منه إلا أنه أخذ يضحك ويقهقه بشدة حتى دمعت عيناه.. وقال لي: هايل يا حجازي.. برافو رائع.. ثم طلب «محمد سليم» المشرف الفنى آنذاك وقال له أن عايزك تفرد رسومات حجازى على أربع صفحات وخد منهم واحدة على الغلاف.. ونظر إليّ وقال لى تشرب إيه يا أبو «الحُجز»!!

بالطبع بعدها توقفت أكثر من ثلاث سنوات عن الرسم ليس لأن حسن فؤاد تعامل مع رسوماتى بهذه الطريقة.. بالعكس ما فعله حسن فؤاد أفضل احتفاء ممكن أن يحظى به رسام.. لكن ما جعلنى أتوقف هو أن حسبة الكاريكاتير اختلفت واصبحت رسومى مجرد مادة للفكاهة تزين بها صفحات المجلة.. وإنها عاجزة حتى عن أن تغير الواقع أو حتى تغير مفهوم رئيس التحرير الذى توقعت أن يرسل فريق عمل من قسم التحقيقات لعمل ملف للفساد فى المجمعات الاستهلاكية فأدركت عدم جدوى رسومى فتوقفت. فسألته.. والمرة الثانية.. فقال:

- المرة الثانية عندما كنت أعمل فى جريدة الأهالى وكان سقف الحرية قد ارتفع كثيراً عن الرسم فى مجلتى صباح الخير وروز اليوسف.. ولكن بعد قليل اكتشفت أننى أكثر براءة منهم فى جريدة الأهالى فاعتذرت عن مواصلة العمل.. سألته كيف هم أقل براءة منك.. قال ساخراً: وأنت أيضاً أكثر براءة منهم.. وإلا ستكون أكثر سذاجة.. وأنا أعرف جيداً أنك لست ساذجاً إلى هذا الحد.

الحديث عن حجازى ذو شجون.. وهو لا ينتهى ولكن كنا جميعاً نضحك على رسوم ونستمتع بها ونحتفى بنشرها فى كل مكان.. ولكننا جميعاً لم ننتبه إلى أنه كم كان يتألم مرة من الواقع ومرة من المرض.. ومرات عديدة من الإحباط الشديد الذى عاشه جيله وجيلنا أيضاً.. فنحن أبناء ثورة يوليو كنا نشعر دائماً بأنه لدينا مهمة وطنية وأننا مهمون وسنكون (الحدث القادم) الذى سيغير الواقع ويرفع الظلم.. على حد تعبير حجازى نفسه.. ولكننا ظلمنا جميعاً ولم يتغير أى شىء.. أما (الحدث القادم) فلم يكن لنا بل كان للصوص والفاسدين.. والداعرين والقوادين فى السياسة والحياة.. وإلى أن نلتقى يا صديقى العزيز فليكن العالم فى مثل جمالك وعطائك العظيم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.