فى منتهى الصمت عاش وملأ الدنيا إبداعاً وصخباً وفى منتهى الصمت انسحب من القاهرة عائداً إلى طنطا مسقط رأسه وفى منتهى الصمت ظل يقاوم المرض وحيداً إلا من ريشته التى لم تكف عن الابداع العظيم الصاخب وفى منتهى الصمت ترجل الفارس النبيل عن جواده وأسلم الروح وفى منتهى الصمت سارت جنازته نحو مثواه الأخير وفى منتهى الصمت دفن جثمانه الغالى تحت تراب مصر «عشقه الأول والأخير». هكذا رحل الصامت الفصيح أو الصامت العظيم كما كان يحلو للأستاذ أحمد بهاء الدين أن يسميه، هكذا رحل حبيبى وأستاذى وصديقى أحمد إبراهيم حجازى المعروف ب«حجازى الرسام». جاءنى بهذا الخبر المفجع ابنى وصديقى ميشيو غالى حجازى هو الذى علمنى حب مصر وناسها الطيبين وهو الذى علمنى أن أفرح بالموهبة التى منحنى الله إياها لكى أسخرها لحب الوطن الغالى وحب أهلى الطيبين والدفاع عن مصالحهم وتاريخهم ومستقبلهم وحجازى هو الذى علمنى كيف أعلو على الصغائر لأن رسالتى أكبر من أعدائى وأكبر منى ومن أوهامى ومن أحلامى الشخصية الصغيرة وحجازى هو الذى علمنى أن أحترم كلمتى لكى يحترمنى الناس وحجازى هو الذى علمنى ألا أكره أو أخاف وحجازى هو الذى علمنىأن أحب كل ما هو طيب وجميل والذين اقتربوا من هذا الكيان العظيم سيدركون أننى لن أستطيع وصفه بدقة. قالى لى صديقنا المشترك الشاعر الكبير الراحل فؤاد قاعود تصور يانجم ابن الكلب ده مش عارف أمسك عليه غلطة بقى لى خمستاشر سنة هى عمر صداقتنا. كان حجازى متكفلاً بأولاد اخواته الغذاء والكساء والتعليم وكان من حقه أن يسعى لتحسين دخله من خلال الظهور فى برامج التليفزيون ولكنه رفض تماماً، كما رفض العمل فى صحافة الخليج أو العمل فى احدى دول الخليج رغم العروض التى كانت تنهال عليه ويوماً سأله صديقه الحميم الدكتور حسن شرشر. إيه العيب يا حجازى فى أنك تسافر إلى أى دولة عربية على الأقل تسدد ديونك. فأجابه: وهى مصر مش دولة عربية؟ وكان محمد بغدادى وهو من تلاميذه وأصدقائه المقربين وبمبادرة شخصية منه أصدر كتاباً يحوى رسوم حجازى ووضع صورة حجازى على الغلاف بحجم صغير جداً ولكن حجازى رفض الفكرة قلت له: فيها يه ياحجازى هو انت كل حاجة تقف لنا فيها زى اللقمة فى الزور؟ فقال: اللى حيشترى الكتاب بفلوسه عايز يشوف الرسوم مش عايز يشوف صورتى، فهمت ولا لأ. وأذكر الآن يوم الافراج عنى عام 1973 كانت أول حاجة عملتها انى اتصلت بيه تليفونياً. ألو أستاذ حجازى. فأجابنى: هما ركبولكوا تليفونات فى الزنازين. والكلام عن هذا الإنسان الرائع لا ينتهى والفجيعة من هذا الصديق أليمة ولكن حسبه أن رأى الثورة قبل الرحيل وداعاً ياصديقى وأستاذى العزيز وداعاً ياحجازى وإلى أن ألقاك.