-إياك والرضي عن نفسك فانه يضطرك إلى الخمول، وإياك والعجب فانه يورطك في الحمق، واياك والغرور فانه يظهر للناس نقائصك كلها ولا يخفيها.. جمل قصيرة لمن فقد بصره منذ الصغر، ولكنه لا يعلم أنه في يوم سصبح عميدًا لأدب العربي، أزهل العالم بفكره وكتاباته، أتهم بالإلحاد والتطاول على الدين، ودخل في مجادلات عدة مع شيوخ الأزهر، قال عنه عبَّاس العقاد إنه رجل جريء العقل مفطور على المناجزة، والتحدي فاستطاع بذلك نقل الحراك الثقافي بين القديم، والحديث من دائرته الضيقة التي كان عليها إلى مستوى أوسع وأرحب بكثير. في ذكرى وفاة عميد الأدب العربي "طه حسين" ال42 "الفجر الفني" ترصد أهم محطات حياته..
.في قرية الكيلو قريبة من مغاغة إحدى مدن محافظة المنيا، ولد عميد الأدب العربي طه حسين في 15 نوفمبر1889.
.وما مر على عمر الطفل أربعة أعوام إلى أن عيناه أصيبتا بالرمد ما أطفا النور فيهما وفقد بصره، وألحقه والده بكُتاب القرية لتعلم العربية والحساب وتلاوة القرآن الكريم وحفظه في مدة قصيرة أذهلت أستاذه وأترابه. .وفي 1902 التحق بالأزهر ونال شهادته، لكنه ضاق ذرعا بالدراسة الأزهرية الراتبة، وقال الأربعة أعوام في الأزهر مرو علي وكأنهم أربعون عامًا،وكان بعد تخرجه ظل يتردد على الأزهر والمشاركة في الندوات اللغوية والدينية والإسلامية. .وعندما فتحت الجامعة المصرية "جامعة القاهر" أبوابها سنة 1908 كان أول المنتسبين إليها، ودرس العلوم العصرية، والحضارة الإسلامية، والتاريخ والجغرافيا، وعددًا من اللغات الشرقية كالحبشية والعبرية والسريانية.
.وفي عام 1914 نال شهادة الدكتوراه وموضوع الأطروحة هو: "ذكرى أبي العلاء" ما أثار ضجة في الأوساط الدينية ، وفي ندوة البرلمان المصري إذ اتهمه أحد أعضاء البرلمان بالمروق والزندقة والخروج على الدين. .وفي العام نفسه أوفدته الجامعة المصرية إلى مونبيليه بفرنسا، في بعثة دراسية فدرس الأدب الفرنسى وعلم النفس والتاريخ الحديث وبقى هناك حتى 1915، وعاد الى مصر ليستمر لمده ثلاث شهور، معارك المقارنة بين التدريس في الأزهر والجامعات الغربية وقرر المسؤولون حرمانه من المنحة وتدخل السلطان حسين كامل وأوقف القرار وعاد إلى فرنسا لمتابعة الدراسة في باريس. .وبعد عودته لفرنسا من جديد إتجه لدراسة علم الإجتماع، والتاريخ اليوناني والروماني والتاريخ الحديث وأعد من خلالهما الدكتوراه الثانية وعنوانها "الفلسفة الاجتماعية عند ابن خلدون".
.وكان قد تزوج من "سوزان بريسو" الفرنسية السويسرية التي ساعدته على الإطلاع أكثر للفرنسية واللاتينية، فتمكن من الثقافة الغربية إلى حد بعيد، وكانت لهذه السيدة عظيم الأثر في حياته فقامت له بدور القارئ فقرأت عليه الكثير من المراجع، وأمدته بالكتب التي تم كتابتها بطريقة بريل حتى تساعده على القراءة بنفسه، كما كانت الزوجة والصديق الذي دفعه للتقدم دائماً وقد أحبها طه حسين حباً جماً، ومما قاله فيها أنه "منذ أن سمع صوتها لم يعرف قلبه الألم"، وانجبا اثنان من الأبناء هما "أمينة ومؤنس". . وعاد إلى مصر عام 1919 عين أستاذًا للتاريخ اليوناني في الجامعة الأهلية المصرية، وعندما صارت حكومية عام 1925 عينته وزارة المعارف أستاذًاً فيها للأدب العربي، ثمعميدًا لكلية الآداب في 1928، لكنه قدم استقالته بسبب ضغوط وفدية، لانتمائه لحزب الأحرار الدستوريين.
.في عام 1926 ألف طه حسين كتابه المثير للجدل "في الشعر الجاهلي" وعمل فيه بمبدأ ديكارت وخلص في استنتاجاته وتحليلاته أن الشعر الجاهلي منحول، وأنه كتب بعد الإسلام ونسب للشعراء الجاهليين، وتصدى له العديد من علماء الفلسفة واللغة ومنهم: مصطفى صادق الرافعي والخضر حسين ومحمد لطفي جمعة والشيخ محمد الخضري ومحمود محمد شاكر وغيرهم، كما قاضى عدد من علماء الأزهر طه حسين وأتهمه بالإلحاد، إلا أن المحكمة برأته لعدم ثبوت أن رأيه قصد به الإساءة المتعمدة للدين أو للقرآن، وعدل اسم كتابه إلى "في الأدب الجاهلي" وحذف منه المقاطع الأربعة التي اخذت عليه. .وفي عام 1930 أعيد طه حسين إلى عمادة الآداب, لكن عندما منحت الجامعة الدكتوراة الفخرية لعدد من الشخصيات السياسية مثل عبد العزيز فهمي, وتوفيق رفعت, وعلي ماهر باشا, فرفض طه حسين لهذا العمل, فأصدر وزير المعارف مرسوما يقضي بنقله إلى وزارة المعارف، لكن رفض العميد تسلم منصبه الجديد اضطرت الحكومة إلى إحالته إلى التقاعد سنة 1932. . بعد تعقاعده إتجه طه حسين إلى الصحافة، وأشرف على تحرير "كوكب الشرق"، إلى أن حدث مشاكل بينه وبين صاحب الجريدة فتركها، وذهب بعد ذلك إلى اشترى جريدة "الوادي"، وظل يشرف على تحريرها إلى أ، هذا العمل لا يعجبه، وترك الصحافة عام 1934. . وفي عام 1934، أعيد إلى الجامعة المصرية بصفته أستاذًا للأدب ثم عميدًا لكلية الآداب بدءا من 1936، وعلى أثر خلافه مع حكومة "محمد محمود" استقال من العمادة لينصرف إلى التدريس في الكلية نفسها، وفي 1950 صار وزيرًا للمعارف حتى 1952، كما شغل منصب وزيرًا للتربية والتعليم في أوائل السبعينات.
.وفي 1959 عاد إلى الجامعة مجددًا بصفته أستاذًا غير متفرغ كما عاد إلى الصحافة، وشغل منصب رئيس تحرير جريدة "الجمهورية".
.مثل طه حسين مصر في مؤتمر الحضارة المسيحية الإسلامية في مدينة فلورنسا بأيطالياعام 1960، ورشحته الحكومة المصرية لنيل جائزة نوبل، وفي عام 1964 منحته جامعة الجزائر الدكتوراه الفخرية, ومثلها فعلت جامعة بالرمو بصقلية الإيطالية عام 1965، وفي السنة نفسها حصل طه حسين بقلادة النيل، وفي عام 1968 منحته جامعة مدريد شهادة الدكتوراه الفخرية، وعام1971 رأس مجلس اتحاد المجامع اللغوية في العالم العربي, ورشح من جديد لنيل جائزة نوبل، وأقامت منظمة اليونسكو الدولية في اورغواي حفلاً تكريمياً أدبياً. .وتوفى عميد الأدب العربي "طه حسين" في 28 أكتوبر عام 1973.
وفقدت مصر رجل من أعظم الأدباء في ذلك الوقت، ولم يأتي مثله أديب حتى الآن.