لطالما ظل مصير أبوالعلا ماضى مرهونًا بكلمة من الدولة، تترك له مساحة ظهور وحركة محسوبة تارة.. وتنكل به تارة أخرى، تمد يدها إليه مرة.. تهبط به إلى أسفل سافلين مرات ومرات. المحصلة أن ابن الإخوان الضال، رئيس حزب الوسط، المفرج عنه مؤخرًا لانقضاء فترة حبسه الاحتياطى على ذمة قضية أحداث «بين السرايات»، لم يملك قرارًا أو نفوذًا فى معادلات التأثير السياسى أو على ساحة المعارضة، إلا بإشارة من السلطة. نقطة القوة والكارت الوحيد الذى كان يلعب به ماضى وحزبه طيلة السنوات الماضية بطرح نفسه كمعارضة إسلامية بديلة للإخوان فى ثوب مدنى، لم تشفع له قبل سقوط دولة مبارك وإلغاء لجنة شئون أحزابها، فأذاقه صفوت الشريف الأمرين على مدار أكثر من 15 عامًا وفى النهاية لم يمنحه صك الشرعية للوسط برفض طلب تأسيسه 3 مرات. ماضى، ورفيق دربه عصام سلطان، طرقا فى ذلك الوقت كل الأبواب والوساطات، وربما قدما عشرات الخدمات المجانية على حساب جماعتهما السابقة التى كانت تطاردهما باللعنات واتهامات التخوين وشق الصف والعمالة، أملًا فى انتزاع موافقة الأمن ورضاء النظام. ليظهر مشروعهما الحزبى إلى النور، ومع ذلك لم ينالا أى شيء، وصارا على طريقة حزبهما، فى منطقة وسط مائعة بين الدولة والتنظيم، فلم يصبحا أبدًا ضمن فرق كورال الأولى ولا تمكنا من احتواء غضب الثانى أو تفادى سمومه، إلى أن جاء الفرج بحكم قضائى بعد أيام فقط من تنحى مبارك، وأصبح الوسط هو المولود الحزبى الأول فى دولة الثورة. فيما أن الزمن يعيد نفسه مرة أخرى وأصبحت الكرة فى ملعب الدولة مجددًا لتتخذ ما تشاء بشأن أبوالعلا ماضى، إما بالسماح بمنحه واجهة المعارضة الإسلامية الجديدة كبديل عن الإخوان الذين أصبح بينهم وبين المصريين خصومة «دم» لا رجعة فيها، أو بقطع الطريق عليه تمامًا، خاصة أن صورة الوسط كحزب يضم فى هيئته العليا أقباطًا وسيدات لا تزال حاضرة، فى حين أنه لم يتردد فور خروجه من السجن فى تأكيد عودته للحياة السياسية ورئاسة الوسط والانخراط مجددا فى العمل العام بمشروع متوازن بعيد عن الاستقطاب. فى زمن الإخوان ظن ماضى أن الدنيا ضحكت له أخيرًا، وأن عداوة السنين ستسحق تحت أقدام المصلحة وتمكين المشروع الإسلامى الكبير ورغبة الجماعة فى لم شمل الجميع حولها ولو كانوا من أبنائها المارقين، فيما كان الرجل فى الموعد، وعرف كيف يخاطب غرور الجماعة التى طالما قال عنها إنها معتمة وديكتاتورية ولا أمل فيها، ليصبح ماضى (إلى جانب عصام سلطان) فجأة وعلى غير توقع، العراب الأول لسيناريو ضرورة تصدر الإخوان المشهد على خلفية التنكيل بهم فى عهد مبارك. داس ماضى على تاريخه الطويل فى العداوة مع الإخوان، فبوابة السلطة باتت على مرمى بصره، بعد سنوات من الحرمان حتى من مجرد الاقتراب من دوائرها الأكثر اتساعا، ليتحول فى ليلة وضحاها لصوت معتبر فى فرقة الميليشيات الإلكترونية الإخوانية التى استهدفت مثلا تصفية حسابات الجماعة مع المخابرات، مدعيًا أن مرسى أبلغه أن «المخابرات العامة أنشأت منذ عدة سنوات تنظيماً مكوناً من 300 ألف عنصر ممن يعرفون بالبلطجية، بينهم 80 ألفاً فى القاهرة وحدها». لكن.. تراجع الإخوان المعتاد عن وعودهم بصفة عامة مع مختلف حلفائهم، خاصة تلك التى تم الاتفاق عليها قبيل تمرير مسودة دستور 2012، أكد له خطأ حساباته، حيث جرى الاتفاق على تشكيل حكومة وطنية، تترأسها شخصية توافقية من خارج الصف الإخوانى، لحين الانتهاء من انتخابات مجلس الشعب، وكان الرأى أن يتولى رئيس حزب الوسط، المهندس أبوالعلا ماضى، تلك الوزارة، وهو ما تراجعت عنه الجماعة بعد إقرار الدستور، وفوجئ الوسط، وماضى نفسه، الذى سبق أن تحدث عن الحكومة الائتلافية بين حزبه وحزب الإخوان «الحرية والعدالة»، ببقاء وزارة هشام قنديل بعد تنقيحها بكوادر جديدة، فما كان من ماضى إلا سحب ممثل الحزب فى الوزارة، الدكتور محمد محسوب. صدم ماضى آنذاك من تصرف الإخوان، وكأنه أسقط من حساباته أن التنظيم لا ينسى ثأره على الإطلاق، وبالتالى فلن ينسى له خروجه على السمع والطاعة يومًا، ولا مساندته أبوالفتوح فى انتخابات الرئاسة التى جرت عام 2012 على حساب محمد مرسى. غير أن الدولة الآن والتى قررت عدم تغليب أى طرف على آخر فى معارك قادة الجماعة المتناحرة، ما بين فريق مكتب الإرشاد القديم بزعامة المحاميد الثلاثة: عزت وغزلان وحسين وتابعهم فى الخارج إبراهيم منير من هواة صفقات الكواليس مع السلطة، وبين فريق مكتب إرشاد انتخابات فبراير 2014، بقيادة محمد طه وهدان ومحمد عبدالرحمن وسعد عليوة، الداعى للتصعيد والعنف، ومن ثم ألقت القبض على كل من طالتهم يدها من الطرفين، تؤكد صراحة أنها قررت تنحية الإخوان نهائيا وتصفيتهم من المشهد، وأنها لن تتعامل مع أى أجنحة فيهم ولو كانت معتدلة أو قابلة للتفاوض وتقديم تنازلات. وعليه من المحتمل من وجهة نظر البعض أن تصبح أدوار لأسماء كماضى ذات أهمية، خاصة أن الخروج المفاجئ لماضى طرح العديد من علامات الاستفهام وفتح الباب لطرح سيناريوهات عدة عن دور جديد قد يلعبه على الساحة حتى لو كان الإفراج عنه لأسباب قانونية بحتة. يؤكد الداعمون للرهان على شخصية أبوالعلا ماضى من جانب الدولة، على نجاحه كواجهة ما لتيار سياسى إسلامى معتدل يصبغ السلطة بتعددية وتنوع مشهد المعارضة التى تريد تصديره للخارج، قد يمنحها ميزة كبرى بعدم وضع رقبتها تحت سيف ابتزاز السلفيين وحزبهم النور، خاصة فى ظل مراوغات الأخير التى لا تنتهى، وشبهة عدم الدستورية التى تلاحقه على أساس أنه كيان قائم على أساس دينى، إضافة إلى تشدده الفقهى وترديد شيوخه خطابًا لا يختلف كثيرا عن أدبيات جماعات الرهاب المسلحة، فضلًا عن افتضاح أمر اتصالاته مع الامريكان . ورغم أن ماضى ومن على شاكلته يصبحون فى هذه الحالة مفيدين جدا للدولة ولتجميل صورتها خارجيا ، ففى المقابل يوجد توجس متصاعد من وجهة نظر أخرى، يدور فى إطار استمرارية التشكك فى جذوره الإخوانية، ناهيك عن كونه يفتقد قواعد من المؤيدين، خاصة من الشباب الذين تسربوا الى حزب عبد المنعم أبوالفتوح «مصر القوية»، أو انضووا تحت لواءات العنف الإخوانى بعد 30 يونيو، والأهم أن ماضى ينظر اليه بصفته ممثلا إسلاميًا نخبويًا، فيما أن المرحلة تتطلب - من وجهة نظر الدولة - حركيين لا منظرين. وهو ما يذهب إليه الباحث فى الحركات الإسلامية ماهر فرغلى، مؤكدًا ضعف قدرات ماضى وتشرذم حزبه بعد سجنه، لكنه يؤكد فى الوقت ذاته أنه سيؤدى الدور المطلوب منه فى حدود إمكاناته، خاصة أنه خيار جيد كواجهة لا تلجأ إلى العنف فى مقابل عنف الإخوان بالشارع، متوقعا أنه سيكون له دور ايجابى مع عدد من المستقلين كمحمد سليم العوا وعبدالمنعم أبوالفتوح وربما قادة الجماعة الاسلامية وحزبها البناء والتنمية، فى الفترة المقبلة. السيناريو الذى يدعم استدعاء أبوالعلا ماضى للمشهد ضمن كيان إسلامى معتدل بديل للإخوان ومنافس للسلفيين ك«فزاعة»، يكون فيه مجرد فرد أو صوت واحد لا الممثل الوحيد، على أن يتضمن ذلك الكيان أسماءً أخرى ذات ثقل كمحمد سليم العوا، الذى تزامن الإفراج عن ماضى مععودته بقوة إلى المشهد بعد شهور من السفر والانزواء وتقديم الأنشطة الأكاديمية على السياسة. ولا تبدو مصادفة فى كل الأحوال أن يتولى العوا مهمة الدفاع عن ماضى، ويكون لكلمته أمام المحكمة القول الفصل فى الإفراج عنه، بالتزامن مع حديث للعوا نشره حزب العدالة والتنمية المغربى يحاول فيه طرح محاولة إنقاذ التيار الإسلامى وإعادته للمشهد، ويدعو فيه الإسلاميين للتراجع قليلا بجماعاتهم وتنظيماتهم عن صراع السلطة وأن يكون الأداء من خلال عمل حزبى منضبط على غرار التجربة المغربية. فى المقابل يقول القطب اليسارى حسين عبد الرازق أن تحالف ماضى مع الإخوان أيام حكم مرسى، ورغم أن انسحاب الوسط فيما بعد 30 يونيو من تحالف دعم الشرعية، أفقده والوسط ميزة الاختلاف عن الإخوان، وبالتالى لن يكون له دور فى المستقبل القريب بخاصة أن الدولة مكتفية بالنور كممثل للتيار الحزبى الاسلامى، فيما يذهب الخبير بمركز الأهرام للدراسات، أن احتمال السماح ل«ماضى» بالعودة للمشهد السياسى هو طرح خيالى فى اللحظة الراهنة. ومع ذلك تظل هناك كروت قوة فى يد ماضى، لتسويق نفسه لو أراد كبديل للإخوان، خاصة أنه ودون أن يقصد أصبح اسما مطروحا «خارجيًا» بالفعل، على خلفية محاولات الإخوان بعد انهيار حكمهم المتاجرة بسجنه كونه رئيسا لكيان سياسى، وهو ما يفسر أيضًا سر العرض الذى سبق أن تقدمت به مفوضة الشئون السياسية والخارجية السابقة للاتحاد الأوروبى، كاثرين أشتون، ومساعدها ليون، عبر محمد البرادعى للافراج عن رئيسى الحزبين المقبوض عليهما: محمد سعد الكتاتنى (الحرية والعدالة) وماضى (الوسط) كجزء من صفقة للتهدئة بين الدولة والإخوان، غير أن الأخيرة رفضت. فى تلك النقطة يصر البعض على ربط الإفراج عن ماضى بزيارة وزير الخارجية الأمريكى جون كيرى للقاهرة بداية أغسطس الجارى لحضور اجتماعات الحوار الاستراتيجى المصرى - الأمريكى، ليكون المرشد البديل للإخوان إن جاز التعبير، رغم أن الإفراج من الناحية الشكلية والاجرائية كان بديهيًا نظرًا لاستنفاده مدة الحبس الاحتياطى، والمقررة بعامين فقط وفقًا للقانون 143 إجراءات جنائية. وعن إمكانية أن تراهن الدولة على الوسط كبديل للإخوان، يقول عمار على حسن الباحث فى شئون الحركات الإسلامية إنه فى السياسة كل شىء ممكن، وتاريخ علاقات السلطات المتعاقبة فى مصر مع التيار الدينى يؤكد أنها عادة ما تعود إلى احتضانه بعد أن تنبذه لفترة. وبالتالى فإذا خيرت السلطة بين تيار مدنى يؤمن بالتعددية السياسية وحقوق الإنسان والديمقراطية الحقيقية وبين التيار الدينى، فستختار قطعا التيار الدينى لأنه أشبه بالميليشيات والتنظيمات العسكرية، ولا يطالب بالحريات ولا حقوق الإنسان، وإنما سيسعى ليخدم السلطة كما حدث فى سيناريو السبعينيات والثمانينيات. وفى ضوء ذلك من الممكن للنظام الحالى أن يعود لاحتضان هذا التيار مرة أخرى أو حلف من حلفاؤه، إذا أعلن أن بينه وبين الإخوان طلاقًا بائنًا، فى حالة أن اعترف بالشرعية الراهنة وأن 30 يونيو ثورة وأن 3 يوليو هو خلع شعبى للرئيس الإخوانى السابق محمد مرسى، وساهم فى تهدئة العنف ضدها، وبالتالى فالوسط قد يكون خاضعا لهذه القاعدة إذا نجح فى قطع الحبل السرى بينه وبين الجماعة، وفى أن يصبح عصا موسى لاحتواء شباب الإخوان الهائم فى الشارع كصيد سهل لتيارات ودعوات العنف.