دور رعاية المُسنين، أماكن حينما نسمع عنها ينتابنا الحُزن والأسى من زمان أصبح فيه الأبناء يستغنون عن آبائهم ليتركوهم في هذه الأماكن مُتخلّين عن مسئولياتهم تجاههم، قصص وحكايات كثيرة نسمعها عن حالات نزلاء هذه الدور، ولكن الحديث عنها أو السماع عن هذه القصص يختلف كثيراً عن رؤيتها وسماعها من أصحابها. حيث تختلف الأسباب ما بين ظروف حياة أدت إلى أن يصبح الشخص وحيداً دون زوج أو أبناء أو حتى أخوات، وقسوة أبناء وأقارب لا يتحملون ظروف أشخاص خارجة عن إرادتهم. وهذا ما وجدته "الفجر" حينما أجرت لقاءً مع عدد من نزيلات إحدى دور المُسنين، اللاتي اختلفت أسباب إقامتهن فيه، ما بين رغبة منهن الهروب من الإثقال على ذويهن، وأخريات تركهن أقاربهن للهروب أيضاً من مسئوليتهم تجاه رعايتهن. الدولة تكتفي بالرقابة المالية فقط بدأت الرحلة بالذهاب إلى جمعية "السيدة نفيسة" الخيرية، وبلقاء مع عدد من المسئولين بها، تحدث جمال عطية، رئيس مجلس إدارة الجمعية، عن دور الدولة والجهة المنوط بها أن تكفل مثل هذه الجمعيات، بالإضافة إلى ما تقدمه الدار للمسنين المُقيمين بها. في البداية قال جمال عطية رئيس مجلس إدارة الجمعية، أن أكثر المشاكل التي تواجهها الدار، هي اعاقة الدولة لعمله دائمًا، وخاصة عندما يريد أن يقيم أي نشاط بالدار، وموضحاً أن دور الدولة يتوقف فقط على المراقبة سواء المالية أو إستخراج تراخيص كاملة بصلاحية المبني والتي تتمثل في صلاحيته في إقامة النزلاء، وغير ذلك. وفيما يخص مساعدة الدولة للجمعيات، فأوضح أن الدولة لا تُعد رقيبًا عليهم غير في اختصاصات معينة، وأن دورها يتمثل في الرقابة المالية فقط، مضيفًا أنه بالرغم من اقتصار دور الدولة إلا أنها لا تسمح لأي جمعية في مصر بالحصول على إعانات من الدول الخارجية إلا في حالة الرجوع إليها في مثل هذه الأمور عن طريق الشئون الإجتماعية، لافتًا إلى أن هذا إجراء طبيعي من أجل أن يكون الجميع في أمان. وعن دور وزارة التضامن، فأكد أن الوزارة لا تتدخل في الأمور التي تخص الجمعيات حتى وإن كانت تتعلق بمشاكل ترتبط ببعض الجهات الحكومية، مثل "مرفق المياة ومرفق الكهرباء وغير ذلك"، على الرغم من أن تلك الأمور تخص للشئون الإجتماعية، متابعاً: "الشئون لم تقدم أي مساعدة وتصمت عن تحديد الظالم من المظلوم". أما عن المبلغ الذي يحصل عليه كمقابل من المقيمين بالدار، فأوضح أنه يحصل شهرياً على مبلغ ألف ونصف جنية من كل نزيله، لافتاً إلى أن عدد النزيلات 12 فقط، وأنه لا يقبل سوى النساء، موضحاً أنه يرفض الرجال لأن خدمتهم أصعب بالإضافة إلى أن المُشرفين عليهم يجب أن يكونوا رجال أيضاً، فبذلك يصبح الدار "كازينو للعشاق" بحسب وصفه. وعن شروط الحالات التي يقبلها الدار، فأوضح مُشدداً أنه يقبل أي حالة غير مريضة بالزهايمر، لأن هذه الحالات من الصعب التعامل معها، مشيراً إلى أن أغلب الحالات التي يقبلها في الدار كانت من خلال أبنائهم وأقاربهم، وأنهم دائمين التواصل معهم من خلال الهاتف. وأشار إلى أن في حالة الوفاة، يقوم بالإتصال بأبنائها أو أقاربها، موضحاً أنه في حالة عدم وجودهم فيكون الدفن بالمقابر الخاصة بالجمعية، بالإضافة إلى وجود غرفة ل"الغُسّل" بمسجد خاص أيضاً.
بداية الرحلة مع الحاجة "عطيات" وبعد الإنتهاء من لقاء رئيس مجلس إدارة الجمعية، بدأت جولة خلف أبواب دار المُسنين للإستماع إلى قصص وروايات النزيلات. وفي بناء كبير مكون من 7 طوابق، دخلنا من البوابة واستقلينا المصعد الذي وصل بنا إلى الدور الرابع، وهو الدور الذي تقيم به عدد من المُسنات بالدار، ومكون بعدد من الغرف وصالة كبيرة، وجدناهن مجتمعين ويجلسن بها، حيث يوجد عدد من المقاعد وأريكة، كانت "تنام" عليها إحداهن، ويجلس على "الكراسي" الأخريات. وحينما وجدونا ترك بعضهن المكان ذاهبات إلى غرفهن، فعلمنا بعد ذلك أنهن حينما علموا بأننا "صحفيين" تركن المكان خوفاً من أهلهن الذين يزعجهم نشر أي معلومات عن حالاتهن. وعن بعض النزيلات التي ظلت مكانها كانت "الحاجة عطيات" التي ترقد على الأريكة، ولن تصمت من كثرة آهاتها، والتي أوضحت لنا أنها أجرت عملية جراحية بظهرها وقامت بتركيب شرائح، الأمر الذي جعلها غير قادرة على الحركة، مُعتذرة على عدم جلوسها للحديث معنا.
وفي البداية قالت لنا "الحاجة عطيات"، إنها تقيم في الدار منذ عام ونصف، بعد أن تركت منزل ابن أختها الذي استقبلها في بيته لمدة شهر واحد فقط ولم يستطع تحمل مسئوليتها، لافتة إلى أنها هي من طلبت منه أن تقيم في دار لرعاية المُسنين. وأوضحت أنها كانت متزوجة ولم تنجب أبناء، الأمر الذي دعاها إلى أن تعيش مع أختها "الكفيفة" حتى لا تكون بمفردها بعد وفاة زوجها، وبعد أن توفت أختها أقامت مع ابنها، وهو متزوج ولديه ثلاثة أبناء، ويعيش في شقة مكونة من غرفتين فقط، قائلة: "هو وزوجته بيناموا في غرفة وأولاده في الثانية .. هنام فين؟.. ولازم الواحد يكون عنده احساس". وعن سبب مطالبتها بترك منزل ابن أختها للإقامة في دار للمُسنين قالت في حزن شديد :"شعرت بأني ثقيلة عليهم، ومفيش حد بيشيل حملةحد ويستحمله، وفي الدار شايليني وبيخدموني، مفيش بنات تستحمل مين ها تقدر تدخلني الحمام"، في إشارة منها إلى زوجة إبن أختها التي لم تتحمل عناء مساعدتها وهي في هذا السن الكبير، على الرغم من أن زوجها "بن اختها" كان يعاملها مثل والدته. وعن إحتياجاتها، أوضحت الحاجة عطيات، أنها حينما تحتاج لشيء تقوم بالاتصال بإبن أختها ليُلبيه لها، قائلة:"معايا معاش ولما بيخلص هو بيصرف عليا .. ولما بحتاج حاجة حلوه بقوله يجيبهالي .. ومش بيزورني غير لما أطلب منه أشوفه"، مضيفة أنه بخلاف ذلك الدار تقوم برعايتها. الحاجة "سعاد" وإختيار الأصعب من أجل راحة إبن أختها أما الحاجة "سعاد" التي كانت تجلس على "أحد الكراسي"، وتظهر على وجهها علامات اليأس، فحينما سألناها عن سبب إقامتها في دار للمُسنين، ردت ب"بلاش السؤال دا"، وكأنها ترفض أن تستعيد حكاوي مُؤلمة ونعيد لها شريط ذكريات لا ترغب في ذكرها وتتمنى نسيانها. وبعد رفضها صمتت قليلاً وتحدثت قائلة، أن أخواتها هم من وضعوها في دار لرعاية المُسنين منذ أربعة أشهر، موضحة أنها كانت تعيش معهم؛ لأنها لم تتزوج، وليس لديهم أي مقدرة لخدمتها لأنها غير قادرة على السير "مبتقدرش تمشّي". وأكدت على إنها رحبت بفكرة الإقامة بدار للمُسنين، قائلة: "كل واحد عنده مسئولياته وظروفه ولازم يكون عندي نظر"، موضحة أن أهلها ليس لديهم القدرة على مُراعاتها، وأنها لا تريد أن تُثقل على أحد، ومُعبرة عن تمنيها أن يكون لديها أبناء وهي في ذلك السن "وكنت أتمنى يكون ليا ابن أو بنت أقعد معاهم". وأضافت أن حالتها تدهورت كثيراً بعد إقامتها في دار المُسنين؛ لأن حركتها قد ضعفت وأصبحت دائماً تجلس على كرسي، وأنها تعاني من سوء المعاملة من جانب مشرفات الدار، موضحة: "العاملات لا يعاملونا معاملة كويسة ولما بنطلب حاجة بتكون الإجابة، بالشخط والزعيء فينا.. وكل فين وفين بيجيبوها .. بطلب كوباية الماية بيتأخرو وبطلب دخول الحمام بيطنشوا وأنا مريضة"، ومتابعة: "ربنا يتوب عليا ويريحني لأن ظروف أهلي لا تسمح بأن أنتقل لمكان تاني". الحاجة "إجلال" وحكايتها مع الأخ الذي تركها وحيده وبعد أن إنتهينا من حديثنا مع الحاجة سعاد، وجدنا سيدة أخرى تجلس بعيداً بمفردها وعلى وجهها علامات الأسى والإستسلام لأمر واقع وهو تقدم سنها ومرضها اللذان جعلاها قعيدة في مكان تجلس فيه ولا تخرج منه إلا لزيارة الطبيب، "الحاجة إجلال" التي عبرت عن إستسلامها بكلمة واحده "ها ندق على ظروفنا وحياتنا بعد إيه". وعن ظروفها قالت إجلال، إنها لم تتزوج، وكانت تجلس مع والديها وأخوتها ، الإ أن عندما توفوا ذهبت وجلست مع أخوها، الذي لم يرزقه الله بأولاد . وقالت في حزن شديد وانكسار، أن أخوها هو من جاء بها إلى الدار، لأنه لم يعد يستطيع أن يرعاها خاصة وأنه لم يُرزق بأبناء، لافتة إلى أنه هي من طلبت منه أن تذهب إلى دار لرعاية المُسنين بدلاً من أن تثقل عليه، خاصة وأنه يتركها في المنزل وحدها، مضيفة أنها ترحب بالجلوس في الدار عن منزل أخوها لأن الدار تجد فيه من يجلس معها ويحدثها بدلاً من الجلوس وحيده. وعن المُدة التي جلست فيها بالدار، أوضحت قائلة: "أنا من سنين كتير في الدار.. ومابدقش امتى جيت"، وكأنها من كثرة جلوسها وحيدة بعيداً عن عائلتها أصبحت ليس لديها الرغبة لتذكر ما مضى والتحدث عن حياتها وتجربتها في الإقامة مع غرباء. وعن المودة وصلة الرحم، قالت الحاجة "إجلال" بأسي وحزن شديد : "أهي ماشية .. ومابدقش بيجوا أو مش بييجوا، لما بيكونوا فاضين بيزوروني غير كدا ماحدش بقى فاضي لحد".