جلس الحاج محمد مصطفي الذي يقترب عمره من السبعين عاما بجوار نافذة غرفته ينظر إلي الشارع.. يتأمل المارة شاردا كأنه ينتظر شخصا ما تأخر عليه ولم يأت بعد.. أستأذنته في الدخول بعد أن وجدت باب الغرفة مفتوحا لكنه لم يسمعني, ولم يشعر بوجودي إلا بعد أن ناديته أكثر من مرة.. فالتفت مبتسما ومرحبا بدخولي. صافحته وجلست أمامه دون أن يسألني عن هويتي, وأخذ يتبادل الحديث معي عن أحوال البلد, وما يجري بها من أحداث سياسية متلاحقة, حتي وصل الحوار إلي الكلام عنه وعن حياته, فأبلغني أنه وحيد في هذه الدنيا ليس لديه أبناء أو أقارب أو حتي أصدقاء, كما أنه بلا مورد ينفق منه, حيث إنه محروم من معاش الضمان الاجتماعي لأنه مقيم بدار المسنين وحسب قوله فإن هناك ما ينص في القانون علي عدم أحقية المسن المقيم بأحد الدور لمعاش الضمان الاجتماعي مادام كان يعمل بالقطاع الخاص أو العمل الحر قبل أن يصبح غير قادر علي العمل, وباتت كل احلام الحاج محمد تنحصر في توفير معاش الضمان الاجتماعي له لكي يستطيع الانفاق وسد احتياجاته, وحتي يسهم أيضا في مصاريف دار المسنين الذي تؤويه منذ سنوات بلا أي مقابل نظرا لانعدام دخله. تلك الدار هي دار أم هاني للمسنين التابعة لجمعية المحافظة علي القرآن الكريم بإمبابة. وقد حاولنا من خلال هذا المكان التعرف علي أحوال شريحة من المجتمع لا يلتفت إليها أحد وكأنها غير موجودة.. رغم ان لديها متطلبات واحتياجات بل وأحلاما. في السطور القادمة نقترب منهم للتعرف علي تلك الأحلام خاصة ونحن علي مشارف عيدالأضحي المبارك, ولكي نشعرهم بأن لهم دورا آخر في هذه الحياة لاينحصر فقط في انتظار الموت. وحين اقتربنا أكثر من هؤلاء جاءتنا صباح حسن63 عاما تشكو مر الشكوي من سوء الخدمة الصحية في المستشفيات العامة, فعلي حد قولها لا يوجد من يتفهم ظروف المسن الصعبة وانه يتطلب معاملة خاصة ورعاية وإهتمام نظرا لضعفه وقلة حيلته, لكن ما يحدث عكس ذلك تماما فأغلب الوقت الأماكن ممتلئة بالمستشفيات والأدوية ناقصة والمعاملة أسوأ ما تكون, وإذا اتجه أحد المسنين للعلاج في مستشفي خاص بعد معاناة طويلة لم تسفر عن شيء بالمستشفي العام أو الحكومي, وقتها يصبح المسن صيد ثمينا يباع ويشتري فيه خاصة إذا علموا انه قادم من أحد دور المسنين. ولم يختلف كلام الحاجة زينب العنبري70 عاما وهي إحدي نزلاء الدار كثيرا عن كلام صباح فهي ضحية للإهمال الطبي والاستهتار بكبار السن والمسنين, حيث قام أحد أطباء بتشخيص الجلطة التي أصابتها فجأة علي إنها نزلة برد, مما إنتهي بها الحال إلي الاصابة بشلل نصفي باليد والقدم, وتتمني أن يكون هناك أطباء متخصصون في أمراض الشيخوخة, وأن يتم التعامل مع كبار السن علي اساس أن لهم الأولوية في تلقي العلاج بصورة آدمية.. أما محمد مطر74 عاما من قدامي نزلاء الدار فقد أشار إلي موضوع مهم هو ضرورة وجود استثناءات في صرف المعاشات, بمعني أن هناك كثيرا من المسنين لايستطيعون الذهاب لصرف معاشهم إما لتدهور صحتهم وإما لوجود خطورة مباشرة عليهم, فقد تعرض هو نفسه من قبل للسرقة بعد صرفه للمعاش واستقلاله سيارة أجرة ليعود بها إلي الدار, التي فوجيء بمجرد نزوله منها بأن سائق السيارة قد سرق المعاش بأكمله, ولم يستطع طبعا مطاردته, ويتساءل هل هناك إمكانية في إرسال المعاشات إلي أصحابها من المسنين غير القادرين علي الذهاب لصرفها من خلال ما تراه الدولة مناسبا لاتمام ذلك. وكانت أحلام الحاج رواش حسن77 عاما بسيطة مثل حياته, فكل ما تمناه أن تقوم وزارة الشباب بعمل رحلات ترفيهية لكبار السن علي فترات متقطعة من العام بأسعار رمزية, يستطيعوا من خلالها الاستمتاع بأيامهم الباقية علي حد قوله, والترفيه عن أنفسهم بدلا من انتظار الموت بين اللحظة والأخري داخل جدران الدار.. فكرية عبدالرحمن إحدي النزلاء التي بلغت من العمر أرذله كما يقولون تشعر بالخوف الشديد كلما شاهدت أحداث العنف التي تجري في شوارع مصر بين الحين والآخر, وكل ما تطلبه هو زيادة تأمين دور المسنين, حيث أن نزلاءها لاحول لهم ولاقوة. أما عطيات عبدالعزيز فلا تنتظر سوي زيارة.. أي زيارة تشعر من خلالها انها مازالت علي قيد الحياة. ذهبنا بعد ذلك إلي داليا نجيب مديرة الدار, والتي قالت أن عدد الحالات الموجودة بالدار بلغت40 حالة منهم15 رجلا و25 سيدة, وأن قيمة الاشتراك الشهري للاقامة يبلغ200 جنيه للغرفة, وهناك10 حالات يقوم الدار بتسكينهم بالمجان نظرا لظروفهم الصعبة. وان جمعية المحافظة علي القرآن الكريم بإمبابة والمشهرة برقم171 لسنة1967 تعتمد في ذلك علي التبرعات التي تقلصت كثيرا بعد ثورة25 يناير من ناحية وعلي دعم الشئون الاجتماعية من ناحية أخري الذي قيمته55 ألف جنيه سنويا, ولكن هذا الدعم أصبح غير كاف نظرا لارتفاع الأسعار بشكل جنوني, وأيضا لزيادة عدد العاملين بالدار إلي28 فردا بالاضافة للنزلاء الذين علي قدر الامكان نحاول تلبية طلباتهم لكن أحيانا نعجز عن ذلك. وطالبت مديرة الدار وزارة الشئون الاجتماعية بضرورة زيادة الدعم المستحق للمسنين لكي يعيشوا حياة كريمة تهون عليهم وحدتهم.