التطور التكنولوجى والطبى قفز بأعمار البشر إلى مابعد حاجز الستين ملامح ظاهرة جديدة بدأت تنتشر في مجتمعاتنا العربية ومصر مؤخرا، وهي ظاهرة تشيخ السكان، (ويقصد بها نسبة كبار السن في المجتمع إلي نسبة الشباب)، في تقرير أعدته الأممالمتحدة أكد أنه بحلول عام 2025 سوف تزداد نسبة أعداد السكان المسنين (فوق الستين) إلي 25٪ من تعداد السكان العالمي.. وهذا يدل علي أن هناك اضطرابا يحصل في الهرم السكاني في دولنا العربية، وذلك بعد ان سبقتنا الدولة المتقدمة في هذه الظاهرة. يشير خبراء طب الشيخوخة إلي أن السبب الرئيسي في انتشار هذه الظاهرة هو التقدم الذي أصبح يشهده العالم في الطب والخدمات والرعاية الصحية. كما حذروا من نتائج قد تترتب علي انتشار هذه الظاهرة وهي مشاكل اقتصادية واجتماعية وسياسية، ووجدوا في ذلك حلين أولهما اقتصادي واجتماعي وثانيهما صحي وسياسي. كما أطلقت جمعيات خيرية عدة ومنظمات مجتمع مدني مبادرات لتقديم الرعاية لهؤلاء المسنين.. مما أدي إلي انتشار مهنة جديدة بين الشباب وهي مهنة (جليس المسن) فهم شباب يجلسون مع مسنين تجاوزوا الستين، ويقدمون الرعاية النفسية والترفيهية والصحية لرجال وسيدات في مرحلة الشيخوخة. في البداية هناك دراسة علمية لقسم السكان التابع للأمم المتحدة تؤكد إن عدد الأشخاص الذين تبلغ أعمارهم 60 عاما سوف يتضاعف خلال ال 20 عاما المقبلة ثلاث مرات، وذلك لأن نسبة كبار السن ترتفع بمعدل أسرع من الشرائح العمرية الأخري. كما أكدت الدراسة أن الدول المتقدمة تجاوزت نسب كبار السن فيها نسب الأطفال، والبلدان النامية برغم أن الظاهرة في مراحلها الأولي إلا أنها سوف تلتحق بالدول المتقدمة قريبا بسبب النجاح الذي حققته برامج الصحة الإنجابية وتنظيم الأسرة، كما أنه من المتوقع تزايد نسبة تواجد هؤلاء المتقدمين في العمر وتمركزهم في الدول النامية. وأوصت الدراسة الحكومات بأهمية التعامل مع ظاهرة شيخوخة السكان كما أطلقت عليها الدراسة لأن هذه التغيرات التي سيشهدها الهيكل العمري للسكان سوف يصحبها تأثيرات متعددة علي النمو الاقتصادي خاصة في ظل وجود اقتصاد مصري غير مهيأ للتفاعل مع مجتمع المسنين، ووجود مشاكل ضخمة في نظام المعاشات في مصر الذي يعد من الأنظمة الداعمة للمسنين في العالم أيضا وجود نظام ضمان اجتماعي مهدد لا محالة. حذرت الدراسة من آثار هذه الظاهرة علي عدة مستويات أولها اقتصادي سوف يؤثر علي النمو والمدخرات والاستثمار وسوق العمل والضرائب .. إلخ، ثانيهما اجتماعي سوف يحدث خللا في تركيب الأسرة والمعيشة، كما أنها سوف تزيد من معدلات الهجرة وثالثهما سياسي سوف تفاجئنا ظاهرة شيخوخة السكان بنتائج غير متوقعة في أنماط التصويت والتمثيل السياسي وأيضا في المشاركة السياسية. كما نبهت الدراسة إلي وجود مشكلة أكثر خطورة الآن وهي توقع حدوث زيادة في نسب الأشخاص المعيلين، فالسنوات القادمة ستشهد تحولا في نسب الإعالة، وبدلا من وجود قوة عاملة تعمل من إعالة الأطفال سوف تنتشر قوة عاملة تعمل في إعالة المسنين التي سترتفع بحلول عام 2025 من 5٪ إلي 8٪. ومن هنا جاءت ضرورة إدراج مشكلة (شيخوخة السكان) علي جدول أعمال البلدان العربية ووضع إجراءات مستقبلية من قبل صانعي السياسات يركزون خلالها علي التحديات الاجتماعية والاقتصادية التي تسببها هذه المشكلة. فهناك بعض الجهود المبذولة في هذا الصدد من بعض البلدان العربية مثل قطر، لبنان، الأردن، الكويت، الإمارات، مصر. فقد أدرجت مصر طب المسنين وقضايا الشيخوخة في برامجها الأكاديمية في المدارس والجامعات، كما أن هناك عدة مبادرات من قبل بعض الجمعيات الخيرية ومنظمات المجتمع المدني للمساهمة في حل هذه المشكلة. أما الحلول فستكون بزيادة الإنتاج، ووجود مهن جديدة كجليس المسن، وتوفير الرعاية والخدمات الصحية، وتوعية المسنين سياسيا. ولمعرفة أسباب وتفاصيل انتشار هذه الظاهرة في مصر، وكيفية التغلب عليها وإيجاد حلول عملية لها، آخر ساعة التقت خبراء في طب المسنين ورؤساء جمعيات ودور مسنين، وأيضا شبابا قرروا أن يعملوا في مهنة مجالسة المسن. د. ياسر الفرماوي استشاري طب المسنين بجامعة عين شمس والمركز الطبي العالمي: يفسر هذه الظاهرة ويقول إن هناك تغييرا واضحا حدث في الهرم السكاني علي مستوي العالم هذا التغيير أدي بدوره إلي انتشار ظاهرة (تشيخ السكان).. فبعد أن كان الهرم السكاني تمثل قمته فقط نسبة كبار السن في المجتمع، التي كانت لاتتجاوز ال 1٪، الآن في أوروبا تحول شكل هذا الهرم إلي شكل مستطيل، فبسبب زيادة الخدمات الصحية بدأت تزداد نسبة كبار السن علي قمة الهرم، ففي الثمانينيات أصبحت النسبة 6٪ من تعداد سكان العالم، ثم ازدادت بعد ذلك لتصل إلي 8٪ حتي وصلت في معظم الدول المتقدمة إلي شكل المستطيل. أما في مصر فمازلت النسبة مستقرة حتي الآن عند 6٪ أي أن هناك حوالي 6 ملايين شخص تبلغ أعمارهم فوق سن الستين. وأن نسبة المسنين حاليا تصل إلي 25٪ من تعداد سكان العالم، وسوف تزداد إلي 80٪ بحلول عام 2025. مضيفا أن هذه ظاهرة غير صحية، لأن تغيير الهرم السكاني العالمي يؤدي إلي زيادة عدد كبار السن في المجتمع، وهؤلاء يمثلون عبئا علي المجتمع لأنهم فئة غير منتجة، كما أنهم يتسببون في تفاقم المشاكل الاقتصادية في المجتمع، لأن الدولة والحكومات تضطر إلي صرف معاشات إليهم من أموال فئات أخري من الشباب، فالأنظمة الاقتصادية تضع خطتها الاقتصادية بحساب (عمر افتراضي) لكل شخص، إذا تجاوز عمر الشخص هذه السن لاتجد هذه الأنظمة أموالا تنفق بها عليهم وبالتالي تضطر إلي الاقتراض من أموال الآخرين مما يؤدي إلي مشاكل اقتصادية مثل مشكلة أموال المعاشات وغيرها. مؤكدا أن الهرم السكاني في مصر أيضا بدأ يتغير، فالخدمات الصحية بدأت تتحسن، وهناك تقدم ملحوظ في العالم في طب الأدوية والمضادات الحيوية والأجهزة الضوئية والصوتية وتحسن في وضع المستشفيات، كل هذا سوف يؤدي إلي زيادة عمر الفرد.. الآن في أوروبا بدأت الدولة تشجع الأفراد علي الإنجاب بتقديم مكافآت مالية لهم، حتي تتغلب علي هذه المشكلة. ولحل هذه المشكلة في مصر نحتاج إلي منظومة كاملة أولا من الناحية الاقتصادية أن نصبح دولة منتجة يصل دخل الفرد فيها إلي 5آلاف جنيه شهريا وبالتالي سوف تستطيع الحكومات فرض ضرائب مرتفعة علي المواطنين تساعد في الإنفاق علي معاشات كبار السن غير المنتجين. ثانيا: من الناحية الاجتماعية وبسبب الزحام الذي أصبحنا نعيش فيه وتقلص دور الأسرة في رعاية المسنين، وندرة الأشخاص المدربين علي العمل في مهنة مجالسة المسن، من الممكن أن نتغلب علي هذه المشكلة إذا بدأنا في تدريب أشخاص علي العمل في هذه المهنة، فنحن بدأنا ندرس في الجامعة منذ ثلاث سنوات هذا التخصص، ولكن علي أرض الواقع دور المسنين لايوجد إشراف عليها من الوزارات المسئولة ومعظم الذين يعملون في هذه المهنة غير مؤهلين ولايملكون درجات علمية، ولأنها مهنة مؤهلاتها الاستعداد النفسي فمن الممكن تدريب أشخاص علي مهنة جديدة فيكون حلا لهذه المشكلة لكن إذا توفرت لدي العاملين بها المهارات اللازمة. أما من الناحية الصحية فيقترح د.الفرماوي إنشاء مستشفي كبير يتولي فقط رعاية المسنين، وبذلك سوف نتخلص من مشكلة الزحام وعدم وجود أماكن للشباب وصغار السن المرضي في معظم المستشفيات حيث إن الدراسات العلمية تؤكد أن 80٪ من مرضي المستشفيات ومراكز التأمين الصحي في مصر هم من كبار السن وأنهم يستهلكون كميات ضخمة من الدواء معظمهم ليس في حاجة إليها وذلك بسبب قلة الخبرة لدي الأطباء الذين يتعاملون معهم. ويبقي سؤال هل جليس المسنين ممكن أن يحل مشكلة شيخوخة السكان؟ تقدمت جمعية الأسرة إلي وزارة التضامن الاجتماعي بمبادرة خاصة، بعد أن أجرت دراسة استطلاعية للوقوف علي مدي حاجة بعض دور المسنين ل (جليس المسن)، وتشكلت لجنة تضم الخبراء والمتخصصين في مجال الطب وعلم النفس وعلم الاجتماع لتحديد أبعاد المشروع والمناهج الخاصة به. سمر سعيد بكالوريوس خدمة اجتماعية تشير إلي أنها تعرفت علي هذه المهنة من خلال إعلان يقول إذا أردت العمل بتخصصك وفورا اتصل بنا، وتضيف: لقد تقدمت للإعلان وتم اختياري ضمن 50 شخصا آخرين من بين 2000، ثم التحقت بدورة تدريبية حول كيفية معاملة المسن لمدة ثلاثة شهور تعلمت خلالها كيف أتحمل المسئولية في رعاية أصحاب هذه الفئة العمرية صحيا ونفسيا وحتي في أوقات فراغهم. تؤكد سمر أن الذي يعمل بمهنة (جليس المسن) يمر بتجارب جيدة وأخري ليست كذلك. ومن التجارب المؤلمة الإنسانية تجربة رعاية سمر لسيدة عجوز غير قادرة علي الحركة أو حتي وضع الطعام في فمها، وللأسف الخادمات يسئن من معاملتها كثيرا ولا يلتزمن بتوفير احتياجاتها، أما الشيء الأكثر أسفا هو ابنة هذه السيدة التي لاتهتم أو تعتني أو تكترث لآلام والدتها. اعتنت سمر بهذه السيدة اعتناء شديدا وعندما ازداد مرضها رافقتها طوال فترة وجودها بالمستشفي ولم تتركها لحظة. أما نهي سعيد : فتقول لابد أن نتحلي بالصبر حتي نستطيع العمل في هذه المهنة، لأن الحالة المزاجية للمسن شديدة التقلب فمن الممكن أن آتي في الصباح فأجد السيدة التي أعمل معها عصبية تنهرني وتعاملني بشكل سيئ وبدون سبب واضح هنا لابد أن أبتعد عنها تماما وأقول لها (حاضر) وأتركها حتي تهدأ ثم أعود إليها مرة أخري لنشاهد التليفزيون أو لأقرأ لها كتابا. ولأن الشيخوخة ترتبط بضعف الذاكرة والنسيان أحاول دائما أن أنشط ذاكرتها بأشياء بسيطة مثل ماذا سنعمل اليوم؟ ماذا تحبين أن تأكلي غدا؟ ما طبيعة عملك السابق؟ وحين تكون السيدة المسنة في حاجة إلي الكلام وشهيتها مفتوحة إلي (الحكي) أصبح معها مثل (الراديو) لا أتوقف عن الحديب أبدا، أما إذا رغبت في شيء آخر تحبه فلابد أن أشاركها فيه. السيدة المسنة التي تعتني بها نهي تحدثت إليها وقالت: أحب سهي جدا فهي شابة صغيرة عندها قوة احتمال وتتحملني كثيرا، وأنا مزاجي متقلب، وسهي تعرف كيف تتعامل معي وتهدئني، كما تعرف كيف تجعلني سعيدة وأنا بصراحة أرتاح معها تماما واعتبرها حقا ابنتي التي لم أنجبها، ولايناسبني الجليس الشاب لأن سهي تساعدني حتي في الأشياء الخاصة مثل (الاستحمام). فاطمة محمد عبدالله الأولي علي الدفعة في معهد الخدمة الاجتماعية.. اختارت هذه المهنة لقناعتها بأن هؤلاء المسنين أعطونا الكثير ومن حقهم أن يجنوا ثمار ما زرعوا الآن، وهي اكتسبت خبرة من معاملتها لجدها وجدتها وبعد ذلك دعمت الخبرة بالدراسة. ولأن معطم المسنين يعانون من (الزهايمر) فقد يتهم المسن الذي تعمل معه فاطمة أنه لم يأكل حتي الآن ويثور بشدة ويتشاجر معها، وهنا تأتي ضرورة احتواء الموقف بذكاء وهدوء كأن تشغله بشيء آخر حتي ينسي مايضايقه ويتذكر فيما بعد أنه أكل. أما عن تجارب جليس المسن فيحكي لنا محمد عبدالتواب معهد خدمة اجتماعية ترتيبه الأول علي الدفعة كان يعمل مع مسن عمره 86 عاما، حيث يقول: الأساتذة الذين قاموا بالتدريس لنا في الدورة التدريبية هم السبب المباشر في حبي لهذه المهنة، لكن مشكلة المسن الذي كنت أعمل معه أنه يعاني من اكتئاب شديد بسبب الوحدة، وهو بالمناسبة لايلازم الفراش كما أنه ليس مريضا، أي أنه لايعاني من تعب بدني ومعاناته تنحصر في طبيعة شخصيته فقد كان يعمل رئيس مجلس إدارة لشركة، وهذا مايجعله طوال الوقت يمارس معي دور الآمر الناهي وكثيرا ما يتخيل أنني موظف عنده ولابد أن يوقع عليّ العقاب، الذي قد يصل إلي حد قذفي بالحذاء. ويعترف محمد أن العائد المادي مغر جدا لأنه يعمل فترة طويلة ويتقاضي أجره حسب عدد ساعات العمل يوميا، ومايتمناه محمد أن تتغير نظرة المجتمع لهذه المهنة حتي تحصل زميلاته الفتيات علي فرصتهن في ممارسة تلك المهنة لكن لايستطعن بسبب رفض أهلهن لهذا العمل.