■ نجيب أعلن فى لقاء مع السيسى أنه سيتبرع ب3 مليارات جنيه للصندوق ثم عاد وراوغ مرة بأنه لم يعلن التبرع ومرة أخرى بأن التبرع مش بالعافية ■ أنسى الأب يمثل جيلاً من رجال الأعمال يدرك أنهم جزء من الدولة ولكن جيل نجيب يسعى للتحكم فى الدولة
■ فى أيام مبارك تعود نجيب وكبار أهل البيزنس أن تعمل الحكومات لديهم فتكونت لديهم عقدة الطفل المدلل
كل ما يتصل بالملياردير نجيب ساويرس مركب ومراوغ ومتناقض.. لم أجد شخصا قادرا على الجمع بين كل هذه المواقف المتناقضة. الكلمة لديه تحمل مائة معنى وتتحمل ألف تصرف وتصرف. حين استحوذ على شركة موبينيل أقسم ألا يفرط فيها أو يبيعها، ولكن بعد سنوات أصبحت حصة الشريك الفرنسى شركة أورانح 94%، وذلك بعد صفقة عملاقة تخارج فيها الملياردير نجيب من موبينيل إلا من بضعة أسهم.خلال شهر العسل كان نجيب يثنى على الشريك الأجنبى، وما أن اندلع خلاف تجارى بينهما وقت البيع حتى راح نجيب يتحدث عن تعالى الأجانب وأنهم يتعاملون معنا وكأنهم لا يزالون يستعمروننا.
هو رجل يناصر القضية الفلسطينية لكنه لا يجد تناقضا فى أن يرفع حصته فى شركة اتصالات أجنبية تمتلك حصة فى شركة اتصالات بإسرائيل، فتعترض الأخيرة لأن حصة ساويرس كمواطن أجنبى تجاوزت الحد المسموح به فى القوانين. كيف تناصر القضية الفلسطينية وتستثمر فى اقتصاد العدو الإسرائيلى؟! تناقض آخر وليس أخيراً.
حين اطلق الرئيس السيسى حساب تحيا مصر للتبرع للاقتصاد المصرى وبعد مراوغة معتادة قال نجيب فى لقاء إفطار رمضان إنه سيتبرع ب3 مليارات جنيه، وكان السيسى قد اجتمع مع رجال الأعمال قبل الإفطار، ولكن سرعان ما ظهرت المواقف المراوغة والمتناقضة فى قصة التبرع. مرة يصرح ساويرس لإحدى الصحف بأن التبرع لمصر مش بالعافية. مرة يقولون لك إن نجيب من الأساس لم يعلن أو يقل إنه سيتبرع ب3 مليارات جنيه، ومرة ثالثة تسمع بأنه بالفعل قال إنه سيتبرع ب3 مليارات ولكن فى مرحلة جمع المبلغ الضخم. قلت لأحد أصدقاء ساويرس: ولكن ناصف شقيقه دفع 2.5 مليار جنيه أيام مرسى فى أيام معدودة؟! فكان رد الصديق: ناصف أغنى واحد فيهم، وكل منهم يعمل استثمارات مستقلة.
وأخيرا أعلن أحد الزملاء المذيعين أن نجيب ساويرس اتبرع لحساب تحيا مصر ب110 آلاف دولار وأن التبرع دفعة أولى.
ولكن حقيقة الأمر أن نجيب ساويرس لم يدفع ولم يتبرع من أمواله للحساب.المبلغ صحيح وموجود بحساب تحيا مصر، ولكن الحقيقة أن من قام بالتبرع هو أنسى ساويرس -والد نجيب وناصف وسميح- وأنه طلب أن يكتب التبرع باسمه وأسماء أولاده.. حل وسط للمعضلة أو بالأحرى الدراما التى يعشق نجيب العيش وسطها.
فنجيب يريد أن يتبرع بالشكل الذى يريده هو، والوقت الذى يحدده هو وبالرقم الذى يرضاه. لا يريد أن يتبرع بتمويل مشروعات اختارتها الدولة طبقا لخطتها وأهداف التنمية بها. لا يريد أن يتبرع فى الوقت الذى طلبه الرئيس السيسى، فقد لا تكون مصر فى حاجة إلى تبرعاته هو وأمثاله من كبار رجال الأعمال بعد عام أو عامين، فمصر تحتاج الآن وليس غدا أو حتى بعد أسبوع. بالنسبة لنجيب فإن اعترافه بأن للدولة اليد العليا فى التنمية أو تضع الدولة خططها بما يناسب ظروف المجتمع هو المعضلة أو أحد أكبر المعوقات التى تؤرقه وتثير غضبه، وتدفعه إلى كلام من نوع (التبرع لمصر مش بالعافية).
1 - صراع أجيال
تبرع الأب باسم الأبناء إذن ليس قضية شخصية، ولا مسألة عائلية تدرس داخل أسوار البيت، ولا يجوز التعرض لها، لأن نجيب شخصية عامة له ذمة مالية مستقلة، وبيزنس نجيب مستقل عن بيزنس والده، وحتى إذا افترضنا أن نجيب الذى تبلغ ثروته 2.4 مليار دولار (18 مليار جنيه) لم يكن يمتلك أموالا للتبرع فقد كان من البديهى أن يقترض المبلغ من والده، ويقوم هو بإيداع التبرع، لأن نجيب هو الذى جلس مع الرئيس السيسى، وهو الذى أعلن التبرع ب3 مليارات جنيه، وهو الذى قال بعد ذلك: إن التبرع مش بالعافية، ثم إن نجيب يقدم نفسه كناشط سياسى ومؤسس لحزب سياسى ويلعب فى السياسة والانتخابات البرلمانية القادمة، ومن البديهى أن موقفه من مساندة الاقتصاد المصرى هو أحد عناصر تقييم الرأى العام له ولحزبه أثناء الانتخابات، وقد كانت هذه الملاحظات محل نقاش فى بعض الدوائر المهمة، ولذلك فبعد أيام من الدفعة الأولى قد يتبرع نجيب من حسابه هو بنحو 300 مليون جنيه باسم والده واسمه واخوته، وبذلك تبدو خطوة الأب مجرد بداية للتبرع وليس أنه تدخل لإنقاذ أبنائه من العناد فى قضية التبرع لمصر.
أغلب الظن أن الوالد تصرف كرجل حكيم يدرك أن غضبا موجها للأسرة ولأبنائه من عدم التبرع، وأن هذا الغضب شعبى قبل أن يكون رسمياً، وأن الرجل بحكمة السنين يدرك أن هذا الغضب عبء كبير يهدد بيزنس العائلة وسمعتها.
ولذلك قام أنسى بالتبرع بنحو 10% من ثروته البالغة 1.3 مليار دولار، وطلب أن يكون التبرع باسمه وأسماء أبنائه الثلاثة.
ربما نكون أمام صراع أجيال، صراع بين جيل الآباء وجيل الأبناء. جيل الآباء الأكثر حكمة والأكثر وعيا بالمخاطر والأقل عناداً، وجيل الأبناء الذين تستهويهم المعارك والصخب من حولهم، ويرغبون فى حصد كل شىء وأى شىء دون حساب المخاطر أو تكلفة المعارك التى يخوضونها، فى هذا الوضع من الطبيعى أن يتدخل الأب ليصلح ما أفسده الأبناء. خاصة حين تكون العلاقة بينك وبين أهل بلدك على المحك، وخلال أزمة ناصف ساويرس من الإخوان كان أنسى رافضا تماما لفكرة أن تعيش العائلة فى الخارج، ولم ير الرجل أن المليارات من الدولارات تعوض أن تكون ممنوعا من دخول بلدك، فالمال والثروة لدى أنسى لا تجعل منك ندا للدولة أو فى صراع مع الرأى العام بها أو خارج قوانين الدولة، حتى إذا لم تكن هذه القوانين مكتوبة، فبعض أهم القوانين والمعادلات التى تحكم العلاقات قد لا تصدر بقرار جمهورى أو قانون من البرلمان.
2 - صراع إرادة
وربما يكون صراع الأجيال بمعيار العمر تفسيرا مبسطا جدا لجوهر الأزمة، فالحقيقة أننا أمام صراع أجيال من البيزنس.
لأن بعض رجال الأعمال ممن هم فى سن أنسى ساويرس يتخذون نفس موقف نجيب، فهناك جيل من أهل البيزنس ترعرع فى زمن مبارك، وهذا الجيل تعود أن الحكومات تعمل عنده ولصالحه، يطلب أراضى فيحصل على الملايين من الأفدنة، ويطلب أن تخصخص شركات قطاع الأعمال فتلبى طلبه، وصل بهذا الجيل من عدم احترام هيبة الدولة والغرور أن يحدد للحكومات المجالات والأنشطة التى يجب أن (تغور) الحكومة منها وأنا أستخدم نص التعبير المستخدم، ووصل الأمر أن يقول رجل أعمال من كبار رجال الأعمال داخل مجلس الشعب (أنا مش عايز أشوف بتوع الضرائب)، كان هذا الجيل يحلب ثروات الوطن نهارا، ويعاير الحكومة بفشلها الاقتصادى ليلا، ويعرض على الحكومات أن يتدخل ليعلمها كيف تدير اللعبة.
ولذلك صدموا بالطريقة الجديدة التى يدير بها الرئيس السيسى البلاد. فى أول لقاء برجال الأعمال مع المرشح السيسى فى ذلك الوقت. عرض رجل أعمال فى مجال الدواء أن يقوم القطاع الخاص بتدريب قطاع الأدوية الحكومى، ولكن السيسى لم يعلق حتى على كلام رجل الأعمال، ولكنه سأله مباشرة (هتتبرع بكام؟). لقد كان هذا الرد مؤشراً مهماً بأن الدولة تغيرت، وأن الدولة القادمة تقبل الاستماع لكل الآراء، لكنها لا تحتاج لمدرس أو ناظر مدرسة.
3 - شريك أم ند؟
ولكن الصدمة الأكبر التى لم يستوعبها هذا الجيل حتى الآن. هى ما قاله السيسى خلال لقائه الفضائى مع لميس الحديدى وإبراهيم عيسى، ففى هذا اللقاء كشف السيسى عن مفهومه للدولة القوية. دولة تخطط وتنتج، دولة لديها اليد العليا فى اختيار المشروعات وتنفيذها والتدخل فى كل المراحل بما فى ذلك مرحلة الإنتاج. لا شىء بعيداً عن إنتاج الدولة.من الصناعات الثقيلة إلى توزيع الخضار واللحوم. هذا التغيير أو بالأحرى الانقلاب هو أحد الاسباب الحقيقية وراء عزوف بعض كبار رجال الأعمال عن التبرع للصندوق، فهؤلاء يرفضون أن يغادروا حضن نظام مبارك الذى لبى لهم كل مطالبهم إلا قليلا، فأصبح البعض منهم يتعامل كالطفل المدلل. لا يريد أن يعمل داخل نظام أو يتوافق معه، ولكنه يتحدى أى نظام، ويريد أن يثبت أن كل ما يقوله أو يفعله على حق. هذا الجيل كان يتبرع فى مشروعات سوزان مبارك أو حتى للحزب الوطنى، ولكن المعادلة كانت واضحة (التبرعات مقابل المشروعات) وفى فترة لاحقة كانت المعادلة (أن التبرعات مقابل أن ترفع الدولة يديها عن الاقتصاد)، ولكن ما يعرضه السيسى الآن هو شراكة وطن فى الأعباء والمزايا. شراكة يتحمل فيها الأقوى العبء الأكبر، ويحصل فيها الأكثر ثراء على الربح الأقل. شراكة تضمن أن تتحقق العدالة الاجتماعية بأسلوب سلمى وسلس، ولكى تتحقق المعادلة فإن من البديهى أن تقل أرباح ومكاسب وحتى مشروعات الطبقة التى راكمت الثروات أيام مبارك. لم يسع السيسى لإقصاء القطاع الخاص أو رجال الأعمال، لكنه كان واضحا فى الشروط الجديدة للعبة.أرباح أقل والعمل تحت مظلة الدولة. ما يسعى له السيسى يجعل رجال الأعمال شركاء فى تجربة دولة جديدة. شركاء مع أطراف وفئات أخرى كلها مدعوة دون أن تكون لها أفضلية أو نصيب أكبر أو حتى ميزة نسبية، وهذا تحديدا هو ما يثير أعصاب بعض رجال الأعمال من هذه الأجيال. أن تعاملهم الدولة مثلما تعامل كل المواطنين، وأن تطبق الدولة عليهم القواعد وأن يتوافقوا مع قواعد الدولة لا أن نفصل قواعد على مقاسهم. ما يثير غضبهم هو أن بعضهم تصور أنه ند للدولة وليس مواطناً يتبع قوانين الدولة.