بعد تردد وامتناع لأيام عن الإجابة عن أسئلة الصحفيين عن صحة الأخبار التى نشرها بعض الصحف والمواقع حول زيارة أوباما للسعودية فى مارس المقبل فى نهاية زيارة للرئيس الأمريكى لعدد من الدول الأوروبية، صرح جاى كارنى المتحدث باسم البيت الأبيض يوم الاثنين الماضى بأن أوباما سيزور المملكة السعودية بالفعل فى نهاية زيارته لهولندا وبلجيكا وإيطاليا فى مارس المقبل. الزيارة تأتى وسط تدهور للعلاقات الأمريكية السعودية لم تشهده من قبل وصل إلى قيام السعودية بإعلان غضبها رسميا أكثر من مرة، ورفضها للحصول على مقعد فى مجلس الأمن غضبا من «فشل المجتمع الدولى فى إنهاء الحرب فى سوريا» حسب تعبير مسئوليها، وقد تجلى هذا الغضب أيضا فى تصريح رئيس المخابرات السعودية منذ حوالى أسبوعين بأن المملكة تسعى إلى «نقلة نوعية» فى علاقاتها مع الولاياتالمتحدةالأمريكية!
الزيارة تأتى أيضا فى ظل انهيار للعلاقات الخليجية الخليجية التى بقيت متوترة تحت السطح طوال العامين الماضيين قبل أن تنفجر بسبب ممارسات دويلة قطر التى تسير بمفردها ضد بقية دول الخليج خاصة السعودية والإماراتالمتحدة فيما يتعلق بمصر والإخوان المسلمين.
التصعيد بين قطر من ناحية والسعودية والإمارات ومصر وصل إلى ذروته الأسبوع الماضى بالتصريحات المعادية للإمارات التى شنها “الشيخ” يوسف القرضاوى من مقره فى قطر، وهو ما ردت عليه الإمارات بقوة من خلال تصريحات منها ما قاله اللواء طه أحمد طه المستشار القانونى لوزارة الدفاع الإماراتية، فى حوار لقناة «الحياة» الفضائية، والذى أعلن أن خطاب القرضاوى كان بمثابة القشة التى قصمت ظهر البعير فى العلاقات الإماراتيةالقطرية. من ناحية ثانية أعلن السفير الدكتور بدر عبد العاطى، المتحدث باسم الخارجية المصرية أمس الأول الثلاثاء تعليقا على قيام مصر بسحب السفير المصرى فى قطر بأنه قرار جاء بعد «نفاد الصبر» من ممارسات قطر مضيفا بأنه كانت هناك اتصالات مع قطر لكنها لم تسفر عن شىء.
البعض يتكهن بأن زيارة أوباما للمملكة السعودية ستكون علامة على الموقف الأمريكى من هذا الصراع الخليجى الخليجى، متوقعين أن يعلن أوباما رفضه ل«الإرهاب» و«التطرف»، وانحيازه، ولو بشكل غير مباشر لجانب السعودية والإمارات ضد ما تفعله قطر فى المنطقة. وهو ما يعنى بالضرورة دعم مصر فى حربها ضد الإرهاب والإخوان المسلمين الذين يشنون حربا فعلية وإعلامية من منابرهم فى قطروأمريكا وأوروبا... ولكن حسب موقع «بى بى سى نيوز» فإن زيارة أوباما تهدف إلى « دعم الروابط بين حليفها فى الرياض غير الراضين عن سياسات أوباما فى الشرق الأوسط، خاصة فى سوريا». أما وكالة أخبار «رويترز» فرأت أن هدف الزيارة هو «مناقشة عدد من القضايا الأمنية فى الشرق الأوسط والتى تسببت فى توتر العلاقات بين البلدين..» وبشكل أكثر تحديدا: « أمن الخليج والمنطقة العربية والسلام فى الشرق الأوسط ومواجهة التطرف والعنف».
1
خمس سنوات من التدهور!
زيارة أوباما للمملكة تأتى بعد حوالى خمس سنوات من زيارته الوحيدة للسعودية فى مايو عام 2009 فى بداية فترة رئاسته الأولى، والتى قام خلالها بزيارة عدد من دول الشرق الأوسط من بينها مصر...ولكن بين الزيارتين جرت فى النهر مياه كثيرة لم تكن تخطر ببال أحد.
الشرق الأوسط تغير تماما خلال هذه السنوات، ما بين رياح التغيير العاصفة لما عرف باسم «الربيع العربى»، والتى غيرت نظم الحكم فى كل من تونس ومصر واليمن وليبيا، بينما لا تزال تعصف بسوريا وتدق أبواب عدد آخر من البلاد الخليجية مثل البحرين والسعودية نفسها وكذلك السودان ومناطق أخرى، وخلال هذه السنوات الخمس أيضا نجحت إيران فى الالتفاف حول الحصار الغربى المفروض عليها بسبب مشروع المفاعلات النووية، وهو ما هدد فى أوقات كثيرة بشن ضربات موجعة إليها أو حتى احتلالها كما حدث فى العراق، ولكنها خرجت فى النهاية شبه منتصرة بفضل الدعم الروسى الصينى والتردد الأوروبى الأمريكى.
العلاقات بين الولاياتالمتحدة والسعودية التى كانت دائما على ما يرام، وعلى خير ما يرام فى معظم الأحيان، باستثناء الفترة القصيرة التى سبقت وتلت حرب أكتوبر 1973، أصبحت فى أسوأ أحوالها على الإطلاق خلال الشهور الأخيرة بسبب مواقف الولاياتالمتحدة من مصر وسورياوإيران.
ونقلت «وول ستريت جورنال» عن مسئول عربى كبير قوله فى حديثه عن الحاجة للقمة، إن الزيارة «تتعلق بتدهور العلاقات» وتراجع الثقة. الأزمة بين البلدين بدأت عقب التحول الذى شهدته المفاوضات الدولية حول التسلح النووى الإيرانى فى جولتها الأخيرة فى نوفمبر الماضى، والتى أبدت فيها الولاياتالمتحدة تراجعا ملحوظا أمام العناد الإيرانى وتساهلا لم تتوقعه السعودية مع غريمتها الكبرى على النفوذ والسلطة فى المنطقة. وكان السفير السعودى فى بريطانيا الأمير محمد بن نواف بن عبد العزيز قد كتب مقالا لصحيفة «نيويورك تايمز» فى ديسمبر الماضى وصف فيه المفاوضات الأخيرة بين الدول الغربيةوإيران بأنها «مقامرة خطرة».
ما زاد من حدة “الطعنة” أنها جاءت مصحوبة بموقف أمريكى آخر أثار غضب السعودية، تمثل فى التراجع عن دعم المتمردين ضد نظام بشار الأسد فى سوريا، خاصة أن الولاياتالمتحدة كانت قد أعلنت أنها على استعداد للتدخل العسكرى، أو على الأقل تزويد المتمردين بالسلاح والخبرات، للتخلص من بشار تماما، وتحقيق الحلم السعودى القديم باستبدال النظام السورى الشيعى بآخر سنى.
وحسب صحيفة «وول ستريت جورنال» فإن العلاقات السعودية الأمريكية تعرضت للاختبار على عدة جبهات، وصلت إلى تهديد عدد من أعضاء من الأسرة الحاكمة فى السعودية بحدوث تصدع فى العلاقة مع الولاياتالمتحدة احتجاجا على ما يتصورونه تراخيا أمريكيا بشأن الصراع السورى الذى أودى بحياة أكثر من 100 ألف شخص وكذلك التقارب الأخير بين الولاياتالمتحدةوإيران.
وحسب «وول ستريت جورنال» أيضا فإن الملك عبد الله سيستغل اللقاء المرتقب مع أوباما ليسأله عن دوافع قراره بعدم توجيه ضربات جوية لسوريا والذى تعتقد السعودية ومسئولون عرب آخرون أنه عزز من وضع الرئيس السورى بشار الأسد.
الصحيفة من ناحية ثانية، وكأنها ترد على التساؤلات السعودية أضافت أن مسئولين أمريكيين وأمنيين آخرين صرحوا الأسبوع الماضى بأن الولاياتالمتحدة تزود فصائل المعارضة السورية «المعتدلة» بأسلحة خفيفة.
كلمة “المعتدلة” هنا تشير إلى أن الموقف الأمريكى من سوريا تحديدا لا يمكن فصله عن الموقف من مصر، فيبدو أن فشل مخطط إدارة أوباما فى زرع نظم حكم “إسلامية” فى المنطقة، لعدة أهداف لا مجال لتكرارها هنا، بسبب الانهيار المفاجئ لشعبية الإخوان المسلمين والسلفيين فى مصر والمنطقة العربية، وبسبب الهجوم الشديد الذى يشنه الحزب الجمهورى واليمين الأمريكى عموما على أوباما وإدارته بسبب دعم الإسلاميين المتطرفين ضد القوى الديمقراطية والعلمانية فى العالم العربى، وأسباب أخرى بالطبع، فقد اضطرت الولاياتالمتحدة إلى التراجع سريعا عن دعم الإخوان فى مصر والجهاديين فى سوريا والبحث عن موقف وسط ولو لفترة مؤقتة تعيد خلالها حساباتها الخاطئة.
2
أوباما فى رداء بن لادن!
لم يكن يخطر ببال أحد عندما قام باراك أوباما بزيارة السعودية ومصر والقاء خطبته الشهيرة فى جامعة القاهرة حول التعايش والسلام وجذوره المسلمة وتعهده للعالم الإسلامى برأب الصدوع والجراح بين الغرب والشرق وأمريكا والمسلمين..لم يكن يخطر ببال أحد أن أوباما وإدارته سينتهيان بعد سنوات قليلة فى معسكر التطرف الدينى “المسلم” ضد القوى المدنية والمعتدلة فى العالم العربى، لا لسبب إلا الركوب على ظهور الجميع من أجل تحقيق المصالح الأمريكية فى المنطقة، ولو على حساب خيانة “المبادئ الأمريكية” نفسها!
المدهش أن موقف إدارة أوباما «الديموقراطية» – نسبة إلى الحزب الديمقراطى الأكثر اعتدالا- والذى انبنى كما هو واضح على معلومات وتحليلات قاصرة وعاجزة قد أدى بها إلى الظهور بمظهر المعادى للديمقراطية والداعم لقوى الإرهاب والفاشية الدينية، وهو ما جعلها هدفا سهلا لنيران الحزب الجمهورى واليمين الأمريكى الذى اتهم أوباما وإدارته بخيانة القيم الأمريكية والوقوف بجانب أعداء أمريكا، بل وصلت الاتهامات إلى حد الزعم بأن أوباما ينحاز إلى أصوله المسلمة وأسرته الأفريقية التى تضم بعض المتطرفين الإسلاميين! واستشهدوا على ذلك بأمثلة مثل صورته وهو ينحنى أمام ملك السعودية فى لقاء سابق بينهما، وببعض التصرحيات غير المسئولة لوزير الخارجية المصرى السابق أحمد أبو الغيط الذى زعم فى حوار إذاعى أن أوباما قال له نصا خلال لقاء جمع بينهما فى عام 2010 بأنه “لا يزال مسلما وأن أبوه مسلم وزوج أمه مسلم وأخوته غير الأشقاء مسلمون، وأنه متعاطف مع المواقف المسلمة، وأنه طلب من العالم الإسلامى أن يصبر قليلا وأنه فور التغلب على بعض المشاكل الأمريكية المحلية، وبالتحديد قانون التأمينات الصحية، فإنه سيظهر للعالم الإسلامى ما يمكن أن يفعله ضد إسرائيل”!!
اللقاء بين أوباما والعاهل السعودى ليس مجرد لقاء دبلوماسى بين زعيمين لدولتين حليفتين، إذن، ولكنه سيكون محورا لتكهنات وتأويلات كثيرة ربما تكون متناقضة، ومع الوضع فى الاعتبار الطبيعة المراوغة للتصريحات والخطب السياسية، فمن المؤكد أن الجدل والتناقض سيستمران حتى بعد نهاية اللقاء، أما ما سيتم الاتفاق عليه ومناقشته فى الكواليس فسوف يظل أيضا مجالا للتكهنات.
ولكن فى كل الأحوال فمجرد حدوث هذه الزيارة والاهتمام بها فى ذلك التوقيت يعنى أن هناك المزيد من المفاجآت والتغيرات القادمة فى المنطقة العربية...الكثيرون يتمنون أن يكون من بينها نهاية الدور القطرى إلى الأبد!