حين سُئل المفكر السورى ساطع الحُصرى عن تعريف كلمة الزعيم، قال: «إنه الرجل الذى تتسع همته لآمال أمته».. فتاريخ مصر الطويل كان حافلا بالهامات والقامات والزعماء.. ثم تبدلت عصور، فرحلت أجيال وأتت أجيال، تم فيها تجريف مصر فكرا وعقيدة فأصابها العقم الوطنى وبارت أراضيها السياسية.. فلم يعد هناك مشروع قومى يجمعها ولا بطل شعبى يحتضنها..
وبات مظهر المصريين المحتشدين بجنازة السادات وخُطب عبد الناصر أو مظاهرات تأييد سعد زغلول.. مظهرا خياليا فى فيلم أكشن أو ذكرى لمرحلة ولت ولن تعود..
محمد على باشا أحب مصر حبا جما، فكان يتكلم عنها بحماسة نادرة، ويحكى عن شعوره نحوها بالانتماء، ذلك الانتماء الذى لم يولد لديه بدافع كونه أحد أبنائها بل بحُكم توليه منصب الحاكم، ولا أدل على ذلك من حديثه مع الأمير الألمانى «يوكلر موسكو» حين قال له: «يجب على أن اتغلب على صعاب شديدة، وفى سبيل هذا التغلب أشعر أننى مرتبط بهذا الوطن الجديد الذى اتخذته مقاما لى، ولن أعرف الراحة ولا السلام الى أن أبعث هذه البلاد التى ظهرت لى كطفل صغير مُعدم، عار، وحيد، استسلمت للنوم العميق منذ أجيال، سأكون لها كل شىء سأكون أباها وأمها وسيدها وخادمها ومعلمها وقاضيها، وكثيرا ما فكرت فيها وأنا متكئ على وسادتى سائلا نفسى «هل يستطيع محمد على وحده ان يُعهد إليه بأمرها وكسوتها وتعليمها فتشب وتنمو كالطفل؟ اننى أشك فى نجاحى» بيد أنه بالرغم من كل صعب سيحقق الله أمالى، وإليه أدين بالنجاح جلت قدرته، إن العظمة فى متناول جميع الأمم، كما أن الظفر محقق لكل الجيوش إذا وُجد الرجل الذى يقودها ويعرف السُبل التى يسلكها».
المواقف تتكرر.. وقراءات التاريخ تعود بنا دائما إلى نفس البداية وتنتهى بنا حتما إلى نفس النهاية حتى لو تغير الأبطال..
تاريخ مصر الحديث كان ينجب كل يوم بطلاً قومياً أو شخصية وطنية يلتف حولها الشعب.. فمن أحمد عرابى وسعد زغلول إلى عبدالناصر والسادات مرورا بأدهم الشرقاوى ومكرم عبيد.. أخرجت مصر أبطالا ورموزا..
وحين وقعنا فى براثن جماعة الإخوان.. تحول الوضع من الأسف إلى الأسى.. وتحولت فكرة الحاكم من الزعامة إلى الندامة..
فلا محمد مرسى ملأ المكان الخالى فى قلوبنا ولا حتى أشفى غليل الشوق إلى صورة القائد التى رسمناها فى عقولنا..
وضاقت فلما استحكمت حلقاتها فُرجت وكنت أظنها لا تفرج.. ولأن وراء كل محنة منحة.. ومن قلب كل كبوة تولد صحوة.. ففى الوقت الذى أخذنا الإخوان معهم فى نفق مظلم طويل، لم يعد بمقدورنا أن نتنفس فيه إلا سموما، ولا أن نرى من خلاله إلا سواد، ولا أن نحلم معهم سوى بكوابيس..
من وسط هذا النفق المظلم ظهر لنا زعيم.. زعيم كان أشبه بشعاع ضوء انبثق من وسط جبل الظلام، أو بصيص أمل انقشعت عنه غمامة اليأس.. الفريق السيسى..
خرجت الجماهير وراءه ونزل المصريون فى مسيرات لتأييده كى يخلصهم من الإرهاب ودولة اللادولة.. دفعه خوفه على وطن أقسم أن يحافظ على أرضه وعرضه، وشعوره الدفين بأن مصر فى طريقها للهاوية، أن ينقض على لصوص الظلام ليُطهر مصر من قبضة قراصنة الإخوان..
من المؤكد أن الرجل فكر مئات المرات قبل أن يزج بنفسه فى هذا الموقف الحرج، ومن المؤكد أنه كان يعلم أن المعارضين سوف يخرجون بعد أن ينفض المولد مطالبين بسقوط العسكر(ذلك اللقب المهين الذى خرج من قاموس بذىء ابتدعته جماعة الإخوان لإقصاء الجيش من المشهد).. لكن الفريق السيسى لم يفكر طويلا، بل قرر أن يقف ويتصدى ويحارب ويواجه بتأييد من الشعب وتحت لوائه..
أشعر بالغثيان من كل المرتعدين الذين كانوا يستغيثون من حكم الإخوان وطغيانهم، وبعد أن قام السيسى بهذا العمل البطولى، عادوا يتهمونه بالطمع فى الحكم، وعادوا يتشدقون بسقوط دولة البوليس والجيش من جديد.. ولأننا شعب حافظ مش فاهم، يؤسفنى أن أقول لهم إن الجيش المصرى جيش عظيم قام بدور بطولى فى عصر النهضة الحديثة لمصر منذ أيام محمد على وحتى اليوم، الذى استطاع الاحتماء بجيشها العظيم وتقويته والوصول بفتوحاته حتى حدود الشام، ثم أتى الخديو إسماعيل ليعمل على تأمين منابع النيل وتوسيع رقعة الأرض المصرية حتى جنوب السودان من خلال جيش قوى وجنود أوفياء.. وحيث إننا لسنا بصدد مناقشة ما إذا كان الفريق السيسى يصلح رئيسا لمصر من عدمه لأن الرجل لم يترشح أصلا للرئاسة! ولكن هذا لا ينفى أنه احتل هذه المساحة الخالية فى قلوب كل المصريين عن جدارة، وكتب اسمه بحروف من ذهب فى تاريخ مصر ومستقبلها، والأهم أنه أعاد إلى أذهاننا فكرة القائد الزعيم..
بقى أن نطالبه بأن يضرب بقبضة من حديد هذا الإرهاب الغاشم الذى تتعرض له الدولة، وأن يتصدى لمحاولة عودة احتلال مصر بقوات الفاشية الإخوانية، والتصدى لمحاولة تزوير الضمائر الذى تتزعمه كل دول العالم ضد الإرادة المصرية.. فتركيا التى تستنكر موقفنا ضد الإرهاب وأدت كل محاولات الانتفاض ضد أردوغان بمنتهى العنف.. وأمريكا التى أبادت العراق وأفغانستان بحجة القضاء على الإرهاب تساند الجماعات المتطرفة وتدعمها من أجل مصالح الحليف الصهيونى.. والاتحاد الأوروبى الذى يطالب مصر بالتخلى عن العنف والانحياز لحقوق الإنسان، نسى أن رئيس وزراء بريطانيا ديفيد كاميرون قال بالحرف الواحد: لا تحدثنى عن حقوق الإنسان حين يتعلق الأمر بالأمن القومى (أمال إحنا كنا بندافع عن إيه؟ الفريق القومى)!.
هكذا عودتنا دول العالم طويلا بعدم السماح لمصر بأن تصبح دولة عظمى أبدا، وأن تبقى دوما أسيرة فى يد أوروبا وأمريكا.. ولكن كم بغت علينا دول ثم زالت وتلك عقبى التعدى..
ولكن هذه المرة الشعب قال كلمته واختار مصيره.. الشعب اختار فض اعتصام رابعة والنهضة اللذين روعا المواطنين.. الشعب اختار الإطاحة بالرئيس الخائن المتخابر وأعوانه ومُحاكمتهم.. الشعب اختار العودة إلى أحضان الوطن العربى أخوة وأشقاء.. الشعب تعلم الدرس وأصبح واعيا لمن معه ومن ضده.. الشعب أقسم على أن تنتهى دولة الإخوان هذه المرة بلا رجعة..
الشعب أخيرا وجد القائد والزعيم الذى استطاع بعصاه السحرية أن يلون المستقبل بألوان الحرية، وأن يُعيد التفاؤل إلى عيون لم تعد تعرف سوى اليأس.. والابتسام إلى شفاه مات فوقها الكلام..
باختصار يا سيادة الفريق ظهورك اليوم فى حياة مصر هو بمثابة عودة الروح إليها وإلينا..