(عم أحمد) رجل بسيط يعيش فى الأقصر منذ أن وعى على الدنيا، وُلد بها وآبى ألا يُدفن إلا تحت ترابها...كان شاهدا على عصر الفساد، ومؤمنا بأن القادم أفضل..ولكن بعد الثورة والفوضى، ماتت السياحة فى قلب المدينة الشامخة، وهجرها السياح.. فبقى تمثالى آجا ممنون شاهدين على السكون المُخيف، ولم يعد أبناء البلد يسمعون سوى أصوت الخواء فى بهو الأعمدة ونعيق البوم فوق مقابر الملوك والملكات بالبر الغربى..طُمست النقوش من فوق المسلات..وتوقف كهنة آمون عن إقامة شعائرهم الدينية فى رحاب قدس الأقداس.. إنتصر الخراب وخفق الأمل، ومات الإيمان بالغد فى قلوب أهل الأقصر.. ذهب عم أحمد مُتحاملا على آلام المرض التى سكنت جسده، وعلى الشعور باليأس الذى أعترى كل ملامحه عقب إنهاء عقده من قبل صاحب الفندق الذى عمل به لمدة ثلاثون عاما ، ذهب ليقابل الرئيس حين علم بقدومه إلى الأقصر..لقد كان يحلم ليل نهار بمقابلة الرئيس الذى إنتخبه بعد إقتناع شديد وإيمان بأنه قادم ليقيم دولة العدل والكرامة بعد سنين من القهر والقمع والفقر.. وقف "عم أحمد" أمام باب قاعة المؤتمرات الدولية ثلاث ساعات وفى يده ورقة، ورقة كتب فيها شكواه ووصف فوق سطورها آلامه وأحزانه ومشاكله الذى سمع الرئيس يؤكد بقدرته على حلها مرارا وتكرارا أيام حملته الإنتخابية.. مرت الدقائق والساعات والرجل فى محاولة بائسة للوصول إلى الرئيس..لكن دون جدوى..وأخيرا قرر العودة إلى بيته..مطأطئ الرأس، خائر القوى.. سألته زوجته عقب عودته إلى المنزل: -" يا سي أحمد، قابلت الريس مُرسي، قولى قالك إيه وقلت له إيه؟ " رد عم أحمد وقد إنتفضت ملامحه بالحزن والأسي: -" الحرس الخاص منعنى، وحاولت أديله الورقة، فشاورلى أديها للراجل اللى وراه، ولما مارضاش ياخدها منى، رجعت والورقة فى جيبى، بعد ما حودت عالقهوة علشان أشوف المؤتمر اللى عمله فى التلفزيون". - " طب وقال إيه ياخويا فى المؤتمر؟ " -" قال إن الناس ممكن تتحمل شويه إنقطاع الكهرباء والميه، وقال إن هو نفسه فى بيته الكهرباء بتقطع عليه، وطلب من الناس إنها تقطع الكهرباء بنفسها فى بيوتها ساعتين كل يوم كنوع من المساهمة فى حل مشاكل البلد، يعنى كل واحد يختار الساعتين اللى يناسبوه بدل ما الحكومة تقطعها عليه..ووعد الناس كمان إن زيارته دى حتخلى السياحة تزدهر والناس كلها حتلاقى شغل..وقال كلمة غريبة قوى يا أم يوسف مافهمتهاش ..قال إن الشعب المصرى طول عمره شعب قادر على التحمل والصبر، حتى إنه وصف الصبر ده بكلمة (الصبر السرمدى الطويل)..اللى هو إيه يا حاجة، الله أعلم!". تعجبت أم يوسف من كلام زوجها ولأنها لم تفهم معنى الكلمة فعادت تسأله: -" طب ماقلش إزاى ياخويا ، يعنى ناوى يعمل إيه والا إيه مثلا خطة الحكومة؟ ". -" لأ ماقلش.. بس أنا برضه عمرى ماحندم إنى إنتخبته، ده رجل بتاع ربنا يعنى عمره ما حيعمل حاجه تغضب ربنا وأكيد حيبقى عادل". تنهد عم أحمد وسقطت دمعة رغما منه على الأرض، فربتت زوجته على كتفه... -" بقى لى سنة بحالها دلوقتى من غير شغل، ولولا ولاد الحلال بيفتكرونا كان زمانا مُتنا من الجوع...كان نفسى بس أسأله، حاكمل جهاز البت منين؟ حادفع فلوس أمى اللى مرميه فى المستشفى على جهاز التنفس الصناعى منين؟ النهاردة عرفت أدبر تمن غسيل الكلى بتاعك بمعجزة طب والأسبوع الجاى حاجيبه منين؟.. كان نفسى أتكلم معاه وأقوله ياريس هو أنا لما إنتخبتك مش قلت لنا إن كل مشاكلنا حتتحل، مش عشنا أشهر طويلة بناخد زيت وسكر من الناس بتوعك..طب بطلوا يعدوا علينا ليه؟، ده حتى لما بنسألهم فين الخير اللى كنتوا بتجيبوه لنا، بيقولولنا: بعدين بعدين..مع العلم إن الأكياس بتاعتهم كان مكتوب عليها (نحمل الخير لمصر)". أخذت أم يوسف رأس زوجها بين ذراعيها، وقبلت جبينه وقالت له: -" ولا يهمك يا حاج، ربنا أكبر من الكل، ربنا حيفرجها إنشاءالله وزى ما صبرنا على الهم والسرقة تلاتين سنه، أكيد حال البلد حيتعدل فى يوم من الأيام ". -" أهو أيام الهم والسرقة على الأقل كنا لاقيين شُغل..همه الناس دول ضحكوا علينا وإلا إيه..الواحد ساعات غصب عنه بيقول أمال إسلام إيه ودقون إيه، ده سيدنا عُمر بن الخطاب كان بيلبس هدوم مقطعة وبيغمس العيش فى زيت علشان الناس تلاقى تاكل.. بيت مال المسلمين كان بيكفى كل الناس، وعمالين يقولوا لنا مشروع النهضة وخطة الميت يوم..إمتى بقى أى حد حيحكم البلد دى حيحس بجد بالناس الغلابة..أنا والنبى يا حاجة خايف أحمد يطلع زى الحاج أحمد ". " طب والحل يا حاج..ما تحاول تروح تقدم فى ديوان المظالم؟ " ضحك عم أحمد مقهقها: " أنت مصدقة يا حاجة الكلام الفارغ ده، ده أنا أعرف ناس واقفة بقى لها شهر..عمالة تقدم فى ورق وشكاوى وبيؤكدوا عليهم أن الريس بنفسه حيبص على كل الشكاوى..بس إن جيتى للحقيقة، هو الراجل فاضى لإيه وإلا إيه؟ يعنى يقفل الجرايد والقنوات اللى عماله تكسر فى مقاديفه، وإلا يفرج عن زمايله بتوع الجماعات، وإلا يقابل الريس بتاع حماس، والا يا عينى يوفر لقمة سخنة وكهرباء لاخواتنا فى غزة، والا يقابل الست بتاعة أمريكا اللى بتدينا المعونة..وإلا إيه..ربنا يقدره على اللى هو فيه..قاله يا حاجة هو أنتي عارفة يعنى إيه كلمة سُرمدى؟! ". فى هذه اللحظة رن جرس هاتف عم أحمد المحمول فسمع صوت يقول: -" البقيه فى حياتك يا حاج، أمك تعيش أنت..الكهرباء قطعت عليها فى المستشفى خمس ساعات فاتعطل جهاز التنفس، وربنا إفتكرها..شد حيلك ". تسمر الرجل فى مكانه ولم ينطق..مادت الدنيا تحت قدميه، لم يعد يرى سوى سواد حالك..هل تدخل الله ليزيح حملا من فوق كاهله؟.. هنا فقط إتضحت معالم الصورة للرجل الغلبان، إن الموت أحيانا يكون أشد رحمة على الإنسان من الفقر واليأس..إبتسم عم أحمد نصف إبتسامة، فسألته زوجته: " بتضحك على إيه يا حاج؟". " أخيرا عرفت يعنى إيه سرمدى!". [email protected]