في خطوة مفاجئة رحل الببلاوي تاركا وراءه إضراب موظفي مصلحة الشهر العقاري وأطباء المستشفيات الحكومية.. وصيادلة المستشفيات الحكومية وموظفي شركات الغزل والنسيج والموظفين المدنيين بوزارة الداخلية وموظفي هيئة النقل العام، الكثير والكثير من الإضرابات اليومية والاعتصامات التي أصبحت شعار المرحلة. هذه الإضرابات لا شك أنها تدل على حاجة منظميها إلى زيادة دخولهم وتوفير حياة كريمة لهم ولأبنائهم، وهو هدف مشروع مائة بالمائة، لكن في حالة الانهيار الاقتصادي الذي تعيشه البلاد وتوقف معظم خطوط الإنتاج، واعتماد الحكومة على "طبع الفلوس" والاستدانة من الخارج وتلقي المعونات من دول الخليج لتلبية الزيادات التي قطعتها على نفسها، يصبح الهدف من وراء تلك الإضرابات والإصرار على "لي ذراع الدولة" وإظهارها في صورة "العاجزة" هو الهدف في حد ذاته، بعيدا عن المطالب المشروعة للعمال. مع تعاطفي مع موظفي الحكومة المطالبين بالزيادة وتحسين الأجور، فإن وقوف الدولة عاجزة أمام "مزاج" موظفيها في العمل أو الإضراب رغم ما تعانيه من أزمات على الأصعدة كافة، يجعل من اللازم بل من الحتمي إصدار قرار رئاسي بقانون يجيز لجهة الإدارة فصل الموظف الممتنع عن العمل دون عذر خارج عن إرادته، لمدة تزيد عن 3 أيام، وكذلك المنقطع عن العمل دون عذر خارج عن إرادته لأكثر من شهر، دون أحقية له في المطالبة بإلغاء قرار فصله أمام القضاء الإداري. إن تحقق هذا فسوف تتساوى القطاعات الحكومية والعامة والخاصة في حقوق وواجبات العمل، وستنتهي أسطورة "الوظيفة الحكومية المضمونة والأبدية"، وتبدأ رحلة العمل والإنتاج الحقيقيين، وتبدأ نظرية "اعمل لكي تأكل"، فضلا عن تحقق المعنى الحقيقي للعدالة الاجتماعية، الذي كان أحد مطالب الثورة. لا أبالغ لو قلت إن 90% من الموظفين لا يلتزمون بمواعيد الحضور والانصراف المقررة، فيذهب الموظف متأخرا وقد "مضى" له زميله، ثم يظل يتفنن منذ دخوله مكتبه في كيفية "التزويغ" بعد ساعة أو ساعتين على الأكثر، في الوقت الذي تظاهر فيه اليابانيون بعد تعرضهم لأزمة منذ عامين على إثر انفجار مفاعل نووي أدى إلى تدمير معظم البنية التحتية، لزيادة ساعات العمل حتى خرجت اليابان من أزمتها بأسرع ما يمكن. إذا تحدثنا عن اليابان فلنا أن نقول إنها تمكنت من تحقيق مكانة عالمية في المجال الصناعي برغم تعرض شعبها لخطر القنبلة الذرية، وفقدان مستعمراتها أثناء الحرب العالمية الثانية، فضلا عن ندرة المواد الخام، لكن سرعان ما تشكلت حكومة ببرنامج محدد وبأكفأ الوزراء، مع الاهتمام بالصناعات العسكرية، وتشجيع رجال الأعمال على استثمار أموالهم في الصناعات الدقيقة، وإرسال بعثات علمية إلى أوروبا ثم عودتها للمشاركة في نهضة بلادهم، مع تقوية مؤسسات الدولة. من مميزات الأيدي العاملة في اليابان، والتي تقارب 60 مليون عامل، الاستيعاب السريع للتكنولوجيا المتطورة بفضل المستوى التعليمي الرفيع للفرد الياباني، والإنتاجية المرتفعة، حيث تدل الإحصائيات على أن العامل الياباني ينتج ما ينتجه 12 عاملا في فرنسا و6 عمال في أمريكا، فضلا عن انخفاض أجور العمال في اليابان مقارنة بمثيلتها في الدول الرأسمالية، ما يؤدي إلى قلّة تكاليف الإنتاج، وكذلك تركيز العمال في عمل واحد، وبالتالي كسب الخبرة العالية في مجال عملهم. العامل الياباني لديه قوة إرادة وتفان في العمل وانضباط وإخلاص لبلاده، فهدفه الأوحد تقدم اليابان والتفوق على الدول الصناعية الكبرى، وخصوصا أمريكا، وتحديها باعتبارها سببا رئيسيا في تخريب اقتصاد بلاده، فضلا عن الخسائر البشرية التي وقعت جراء قنبلتي هيروشيما ونكازاكي. لا وجود للإضرابات العمالية في اليابان، فالياباني يعبر عن استيائه بزيادة ساعات العمل بدلا من الإضراب، وبالتالي زيادة الانتاج، فضلا عن تفضيله شراء المنتجات المحلية، ما يزيد من القوة الشرائية للعملة اليابانية. على الدولة المصرية إدخال التكنولوجيا في مراقبة أداء موظفيها العموميين في كل المصالح الحكومية، فإذا كان من حق الموظف الإضراب عن العمل، فإن من حق الدولة مراقبة أدائه والتزامه بالعمل المكلف به، من الضروري بل من الواجب معاملة القطاع الحكومي مثلما تتم معاملة القطاع الخاص من التزام بمواعيد الحضور والانصراف، عن طريق البصمة، وكشوف الإنتاج وتقييم الأداء، وتمكين الجمهور من التقدم ببلاغ ضد الموظف المطالب بالرشوة، بل والمراقبة بالكاميرات لو أمكن، بذلك يكون المعنى الحقيقي للقضاء على الفساد المتفشي في المصالح الحكومية التي باتت تذخر بأكثر من 6 ملايين موظف، من المفترض أنهم يقومون بإدارة شئون البلاد والعباد، ورغم ذلك يشكو الجمهور من تعثر مصالحهم عند الاحتكاك بأي مصلحة حكومية، هؤلاء الستة ملايين لو اجتهدوا وعملوا ب"ضمير" كاليابانيين، لأداروا شئون العالم وليس شئون المصريين وحدهم.