ما زلت حتى الآن أشعر أن الورق الأصفر يشبه جلد طفل صغير أخشى عليه أن يجرح، هكذا كانت علاقتى بالكتب القديمة، لقد كان سور الأزبكية هو النواة الأولى لمكتبتى ولإمكانية القراءة، فمن هناك اشتريت سلسلة كتب جورجى زيدان ومجموعة هائلة من المجلات التى كانت تباع بعشرين قرشًا للمجلد الكامل، وفى هذه المجلات قرأت أول وصف لجمال المرأة وكنت طفلة صغيرة احمر وجهى والكاتب يصف شعر البنت الطويل الذى وصل لخصرها، ووجهها الأبيض وأكتافها المستديرة، كانت المرة الأولى التى أكتشف أن هذا ليس عيبا، على سور الأزبكية اكتشفت أنه ليس عيبا أن يصرخ الناس من الفقر مع يوسف إدريس فى "أرخص ليالى". أول كتاب اشتريته من مصروفى كان من سور الأزبكية، وأتذكر جيدا أننى جئت مع جدى فى الستينيات من القرن الماضى لمشاهدة أحد الأفلام فى دار سينما أوبرا فى ميدان الأوبرا القديم، وكان جدى قد حضر للقاهرة لمشاهدة الفيلم وشراء بعض الكتب من سور الأزبكية وأخذنى من يدى إلى هناك حيث شعرت بأننى أدخل مغارة على بابا، كانت المغارة مليئة بالكنوز المميزة، شعرت برغبتى فى شراء كل الكتب "حتى لو مش فاهمة حاجة فيها"، وفى هذا اليوم أذكر أننى اشتريت كتاب "ملخص قصة الفلسفة" وكنت فى أولى إعدادى وبالطبع لم أفهم منه شيئا، يومها طلبت من جدى أن أشتريه بمالى الخاص، أما هو فقد اشترى لى مجموعة من الكتب التى تناسبنى بالإضافة إلى مجلة كان اسمها "العصور" لإسماعيل مظهر، لم أفهم منها شيئا إلا عندما كبرت. وحتى الآن مازالت متعتى أن أمر على سور نقابة المحامين والشهر العقارى كى أتفرج فقط على الكتب القديمة رغم أن بعضها كتب قانون ولكن حنينى للكتاب "أبو جنيه" يدفعنى لشراء كتب قد تكون لدى منها نسخ أخرى، فقد اشتريت بالفعل دون كيشوت لسربانتس رغم أنى لدى نسخة هدية من جدى، إلا أننى لم أستطع أن أقاوم وجوده بجوار السور وكان ممزقا إلى حد ما فأخذته وقمت بتجليده وكأنه طفل رضيع تائه قام آخرون بالحفاظ عليه حتى أنجبته أنا، المجلات أيضا اشتريت منها الكثير والكثير حتى لو لم أكن أعرف اسمها ولكنها متعة قراءة لغة الصحافة القديمة، وحتى لغة الإعلانات، فما زلت أذكر إعلانا لن أنساه ما حييت.. شيكوريل، مقطع الحرير ب3 ملاليم، وبجوار الإعلان صورة لسيدة أنيقة جميلة تتسم بالبساطة والشياكة فى نفس الوقت دون أن نسمع عن تسليع المرأة وانتهاك حقوقها، إعلان آخر عن صابون نابلسى، وثالث عن بابور الجاز وإبرة البابور، متعة متابعة الإعلانات فى الجرائد تفوق عندى متعًا كثيرة لأنها تشعرنى بالحنين والحميمية التى شكلت وعيى والذى كانت بدايات تشكيله عند سور الأزبكية.