عادت ظاهرة الاحتكار لتطل بوجهها القبيح مرة أخرى بالسوق المصرية، ولكنها هذه المرة في قطاع يمس معيشة المواطن بشكل يومي وهو قطاع الأغذية مما يجعل الأمر أكثر خطورة لأن المستهلك سيدفع في النهاية ثمنها، وتأخذ هذه الظاهرة اشكالاً متعددة ما بين استحواذات على بعض الشركات بهدف السيطرة على السوق تماما أو احتكارات من مستوردين ومنتجين محليين لبعض السلع والمحاصيل، لتوجيه السوق لصالح الشركات المحتكرة بعد إحكامها السيطرة تماما على الشركات المنافسة الأقل حجما. وفي الوقت الذي تدافع الشركات التي قامت بالاستحواذ على شركات صغيرة عن هذا العمل مؤكدة أنه لصالح الاقتصاد والمستهلك، فإن جمعيات حماية المستهلك والتجار المنافسين والخبراء الاقتصاديين يؤكدون أن هذه الاستحواذات والاحتكارات تخدم أصحابها فقط الذين يسعون للسيطرة على السوق وتوجيهه كيفما أرادوا. وتفتح "صدى البلد" الملف في محاولة لمعرفة الحقيقة، ودفاعًا عن الاقتصاد والمستهلك، خصوصاً أن الملف يشمل الاستحواذات التي جرت في قطاع الألبان والاحتكارات التي يشهدها قطاعا اللحوم والخضراوات والفاكهة. فتح استحواذ شركة المراعي السعودية مؤخرًا علي شركة بيتي المصرية للألبان بصفقه قيمتها 645 مليون جنيه، الباب للعديد من التساؤلات حول الاستحواذ، ومدى أهميته للاقتصاد، أو ضرره على المستهلك، وتباينت أراء الصناع والمنتجين للألبان وجمعيات حماية المستهلك وجهاز حماية المنافسة ومنع الاحتكار حول هذا الأمر. أكد المنتجون والصناع أن دخول "المراعي" السوق المصرية واستحواذها علي شركة بيتي سيفتح باب المنافسة أمام الصناع للإجادة في تطوير المنتجات، بينما تخوف الاقتصاديون وجمعيات حماية المستهلك من الاحتكار وتقسيم السوق جغرافيا بين "المراعي" و"جهينة" التي تسيطر حاليا علي نسبة 60% من سوق الألبان. التزام بقرار حكومي ودافع العضو المنتدب لشركة المراعي وبيتي سابقا حاتم صالح عن اتهام الشركات بالاحتكار، مؤكدًا أنه يوجد في مصر 7 شركات منتجة للألبان المعبأة، وأكثر من 150 مصنعا لمنتجات الألبان، وبالتالي يصعب في هذه الحالة عقد أي اتفاقيات بينهم، موضحا أن دخول المراعي سيعمل علي اتساع المنافسة وتطوير إنتاجية المزارع خاصة أن المراعي ستنشئ مزارع جديدة للألبان. وعن قضية الاحتكار التي رفعها المنتجون قال صالح إن جهاز منع الاحتكار حسمها نهائيا وبرأ الشركات، متسائلاً: عن كيفية اتهام المصانع بالاحتكار لمجرد التزامها بقرارات لجنة حكومية مشكلة من وزارتي التجارة والصناعة والزراعة، وهي المنوطة بتسعير الألبان؟!. تنافس صحي ورحب رئيس جمعية منتجي الألبان محمد الطاروطى، بدخول شركة المراعي السوق المصرية، مؤكدا أنها ستخلق تنافسا بين المصنعين، وسيعلم الصناع السعر العادل لتوريد اللبن الخام الذين يحاولون بخس سعره دائما. وقال الطاروطي إن المصانع سبق أن اتفقت فيما بينها علي شراء الألبان بسعر محدد، مما ألحق الضرر بأصحاب المزارع وحرمهم من الحصول على أسعار تنافسية، لافتا إلى أنه قدم لجهاز منع الاحتكار كل ما يعزز شكوى المزارع، غير أن الجهاز برأ الشركات. من وطنية إلى أجنبية على الجانب الآخر قال الخبير الاقتصادي والغذائي الدكتور حسن هيكل إن العديد من المشروعات تبدأ وطنية وتنتهي في حضن الشركات الأجنبية بسبب عمليات الاستحواذ. وأضاف هيكل أن اللبن الحليب الذي يشربه أطفال مصر، وكانت مصر تنتجه بنسبة 100% سيصبح عرضة لاحتكار الشركات الأجنبية. وتابع هيكل الذي أعد دراسة حول الاستحواذات والاحتكارات في السلع الغذائية أن مصر كانت تمتلك 9 مصانع لإنتاج الألبان عام 1978 أغلقتها الحكومة لاحقا في ظل سياسة الخصخصة، ولم يتبق منها غير مصنع القاهرة ومصنع الإسكندرية، وكانت صناعة الألبان والصناعات الغذائية مصرية 100% تقريبا قبل 16 سنة. وأضاف أنه حين أعلنت الحكومة عن توجهها إلي الخصخصة وتشجيع القطاع الخاص والاستثماري خفتت "مصر للألبان"، وتوقفت تماما في مارس 2009، وقبل ذلك ظهرت شركات ألبان وطنية صغيرة بدأت تكبر شيئا فشيئا حتي أصبحت تستحوذ علي 20% من حجم إنتاج الألبان في مصر وهي نسبة واعده تنبئ بأن التحول للألبان المصنعة (المبسترة) قادم في سوق ينتج 5.3 مليون طن سنويا من الألبان. وفجأة وفقا لهيكل بدأت صناعة الألبان تتسرب إلي أيدي الأجانب تماما مثلما تسربت صناعة الأسمنت التي كانت وطنية تماما ثم احتكرتها شركات أجنبية، وسيطرت الشركات متعددة الجنسيات علي 80% من قطاع الصناعات الغذائية، موضحاً أن صناعة الألبان لدي القطاع الخاص في مصر سيطرت عليها عمليا شركات بيتي ( 20% من سوق الألبان)، وجهينة (50%) إضافة إلى لبنيتا وإنجوي ثم عدد من الشركات الصغيرة غير المؤثرة في السوق. أهم الاستحواذات وأشار هيكل إلى أن أهم الاستحواذات التي تمت في صناعة الألبان هي استحواذ المراعي السعودية علي شركه بيتي (المصرية لمنتجات الألبان والعصائر) بصفقة قيمتها 645 مليون جنيه مصري (115 مليون دولار) في أكتوبر 2009، والتي دخلت السوق فعليا قبل عدة أيام. وكانت المراعي السعودية قد أوضحت في تصريح للعضو المنتدب حاتم صالح في العام 2009 أنها تخطط للسيطرة علي 50% من حجم صناعة الألبان في مصر. واستحوذت مجموعة القلعة من خلال شركة جذور علي شركة انجوي، من شركة (هيكلة) التابعة للبنك التجاري الدولي، والتي كانت قد تملكتها من عائلة الطويل المؤسس الأصلي للشركة بصفقة قيمتها 80 مليون جنيه، بخلاف الالتزام بسداد مديونيات البنوك، وقدرها 200 مليون جنيه، وقبلها كانت مجموعة القلعة القابضة استحوذت علي مزارع دينا، وسبق للقلعة أيضا أن استحوذت علي شركة المصريين (أحد كبار مصنعي الجبن في مصر) بصفقة قيمتها 84 مليون جنيه. واستحوذت مجموعة الخرافي علي شركة جرين لاند للألبان (بعد أن استحوذت علي شركات غذائية مهمة كالمصرية للنشا والجلوكوز)، واحتكرت نسلة صناعة الأيس كريم في مصر بعد أن استحوذت علي أيس كريم كيمو وأيس كريم دولسي وأيس كريم موفنبيك. وأضاف هيكل: "استمرارا لمسلسل الاستحواذ والسيطرة أصبح 80% من حجم الصناعات الغذائية بمصر في يد الأجانب بعد أن كان صفر % تقريبا قبل 16 عاما. وقالت مصادر بجهاز حماية المنافسة ومنع الاحتكار إن ملف الألبان مازال تحت الدارسة رغم تبرئة الشركات، وحينما ينتهي الجهاز من دراسته سيعرضه علي الوزير المختص وينشر في الصحف. قانون قاصر من جهته قال رئيس جمعية "مواطنون ضد الغلاء" محمود العسقلاني إن قانون حماية المنافسة قاصر وضعيف، ولا يحقق الحد الأدنى من المنافسة، موضحا أنه من المفترض تدخل الجهاز في أي استحواذات تتم في السوق، خاصة أن شركة المراعي من كبري الشركات العربية ولديها إمكانيات كبيرة وباستحواذها الأخير علي شركة بيتي ستصبح هي وشركة جهينة الشركتين الكبريين في السوق، ويمكن أن يؤدي ذلك إلي اتفاقات مسبقة علي توزيع الحصص بشكل جغرافي، ومن المتوقع أن تحدث ارتفاعات جديدة في أسعار الألبان ومنتجاتها. وتعد المراعي أكبر شركة متكاملة لمنتجات الألبان في العالم بحجم مبيعات 1.6 مليار دولار برأس مال 5.5مليار دولار. وتخطط المراعي لإعداد دراسة لإنشاء مزارع ألبان في مصر، وتهدف إلي تشجيع المستهلك المصري على استهلاك اللبن المعلب بدلا من اللبن السائب. وتستحوذ شركة جهينة على نحو 50% من الحصة السوقية لصناعة الألبان في السوق المحلية، بينما تستحوذ شركة بيتي على 20%، وشركة انجوي على 15%. ويقدر حجم الألبان التي تنتجها مصر ب 4 ملايين طن، تنتج المزارع الكبيرة منها 300 ألف طن، بينما ينتج صغار المربين الكمية الباقية، ويتم تجميعها من خلال مراكز تجميع الألبان. وتقدر حجم صادرات الألبان ومنتجاتها بنحو 1.5 مليار جنيه، وفقاً لبيانات غرفة الصناعات الغذائية، وتمثل الصادرات نحو 15%.