يستحق ملف بورسعيد اهتماماً أكبر ودراسة أعمق، حالة الاحتقان تتفاقم داخل المدينة، ولدى أهلها شعور بالاضطهاد منذ سنوات، وتحديداً حين وقع الاعتداء على الرئيس السابق مبارك وهو يزورها، ولعلنا نذكر مقالاً مطولاً للأستاذ إبراهيم سعدة يحاول أن يثبت فيه للرئيس أن بورسعيد تحبه، وتردد فى الفلكلور السياسى أن مبارك كان منزعجا ويتساءل عن سبب وجود عدد من البورسعيدية فى قيادة حركة كفاية، وبالاسم الراحل العظيم د.محمد سيد سعيد، والمناضل جورج إسحق.. ورحل مبارك ثم وقع حادث استاد بورسعيد وتداعياته معروفة للجميع، عايشناها، لكن هناك علامات استفهام عديدة فى الحادث.. فى مقدمتها «هل نحن بإزاء حادث يدخل فى باب شغب الملاعب أم أننا بإزاء مؤامرة سياسية؟» الواقع أن قرارات النائب العام ترجح الاحتمال الثانى، لكنها لا تقطع به.. على أى حال إذا كنا بإزاء مؤامرة، فهذا يعنى أن المؤامرة كانت على مصر كلها وبورسعيد فى المقدمة، ومن ثم تصبح المدينة ضحية، يجب أن نكشف خيوط المؤامرة لنعرف أطرافها ونحدد المواقف.. وإذا كنا أمام شغب ملاعب، فالخبرات العالمية والمصرية فى التعامل مع هذا الموضوع واضحة.. حتى الآن هناك متهمون أحيلوا للجنايات، وهذا يعنى أنه لا مبرر عملياً لعقوبات أخرى، فلا يصح أن يكون هناك أكثر من عقوبة على فعل أو جريمة واحدة، هذا بافتراض أننا فى دولة القانون والعدالة الإنسانية، لا دولة البطش والانتقام. لقد وصل إلى أهالى بورسعيد أن عقاباً جماعياً يفرض عليهم، لذا انفعلوا وخرجوا فى مظاهرات تهدد قناة السويس، وقبلها بأسبوع هتف بعضهم هتافات سيئة وطنيا، وهدد أحدهم باللجوء إلى إسرائيل.. هذه كلها انفعالات غاضبة وكلمات مرفوضة وطنيا، لكن كيف سمحنا أن يصل الغضب بالبعض إلى هذا الحد؟! لابد أن نتحدث بصراحة تامة، فمصر أيها السادة، لم تعرف منذ أن وحدها «مينا»، التقسيم، ومن ثم فإن سيناريو التقسيم إلى شمال وجنوب أو مصريين ونوبيين، ليس مطروحا ولا وارداً، هكذا يقول لنا درس التاريخ المصرى، صحيح أن هناك مشاريع مخابراتية بحثية فى الأدراج الغربية منذ حرب أكتوبر 1973 لتقسيم مصر إلى عدة دويلات، وقد حذر منها ونوه إليها مبكرا المفكر الراحل د. حامد ربيع، ومع ذلك فإن هذه التطورات عصية على التنفيذ، كان الرهان على انفصال الأقباط، لكن ثبت أن الأقباط أكثر ذكاء ووعيا، فضلا عن أن انتماءهم لمصر لا يعادله انتماء.. وذات مرة قال البابا شنودة فى ندوة بنقابة الصحفيين، معلقا على هذا السيناريو بسخرية، إن الأقباط يعيشون فى مصر كلها، ولهم كنائس وأديرة فى كل مصر.. فهل يتركون مصر ليحصروا أنفسهم فى أسيوط أو الصعيد؟! لم تعرف مصر التقسيم، لكنها عرفت شيئا أخطر فى تاريخها، هو ما يمكن أن نسميه التفتت والتشظى، بمعنى أن تضعف الدولة وتسقط هيبتها، فتنعزل بعض الأقاليم تلقائياً ويتولاها حاكم طموح أو رجل مغامر من الأقلية، وتصبح العلاقة مع العاصمة مجرد علاقة اسمية.. وجدنا ذلك يحدث بكثرة زمن المماليك، حدث - مثلا- فى إقليم جرجا، وحدث زمن شيخ العرب همام، وفى فترة سابقة حدث شىء من ذلك فى إقليم البحيرة، وهكذا. ومنذ سنوات، وأنا أحذر من هذا المكان، أن المنطقة كلها يعاد رسم خرائطها، وجدنا ذلك فى العراق وفى السودان وها هو يقترب من ليبيا، ناهيك عما حدث للصومال، وكان البعض يتندر من التحذير مرددا أن مصر ليست مثل هذه الدول، وهذا صحيح، سيناريو التقسيم ليس وارداً عندنا لأسباب ومواريث عديدة، لكن لدينا السيناريو الخاص بنا، وهو التفتت، وملامحه تبدو منذ سنوات فى سيناء وتقترب من بورسعيد، ولا يجب أن نسمح له أن يقترب أكثر من ذلك، وحتى الآن فإن التعامل مع أزمة سيناء ومع بورسعيد مقصور على جميع المستويات. لن أتحدث عن سيناء الآن، تعنينى اليوم مدينة بورسعيد، من المهم أن يشعر أهالى المدينة بأنهم ليسوا منبوذين وأنهم لا يتعرضون لعقاب جماعى، لقد زرت المدينة مؤخراً، بعد حادث الاستاد، ولمست المعاناة الحقيقية هناك، هذه مدينة تجارية، قوام اقتصادها وحياتها البيع والشراء مع القادمين إلى المدينة من خارجها، وقد نجح بعض المعلقين الرياضيين، بما عرف عنهم من افتقاد المسؤولية الوطنية، فى تهييج المصريين ضد المدينة وضد أهلها. ذات يوم، بعد العدوان الثلاثى، كانت هناك وزارة فى الحكومة اسمها وزارة بورسعيد، لتتابع مشاكل المدينة وهموم أهلها، ثم انتعشت المدينة فى زمن الانفتاح الاقتصادى، وأنعشت المصريين أيضاً، يمكننى القول إن الحفاء والجلابيب المهترئة اختفت تماماً من ريف مصر فى السبعينيات مع انتشار البضائع القادمة من المدينة الحرة ببورسعيد، فى أنحاء مصر، لم تكن هى السبب الوحيد، لكنها كانت سبباً رئيسياً، ثم تغير الحال مع المدينة منذ نهاية التسعينيات، وتحمل أهلها ذلك برضا، كانوا يعرفون أنهم يواجهون حاكما مستبدا، غاضباً منهم، لكن ما هو المبرر لذلك الآن؟ بورسعيد تستحق اهتماماً أكبر منا وإنسانية أعلى فى التعامل، وأقولها بلا تردد، التعامل مع بورسعيد يفتقد الكثير من المسؤولية الوطنية، ولنحذر دائماً سيناريو التفتت والتشظى. نقلاً عن المصري اليوم