مدن التاريخ لا تحتاج إلى ذاكرة؛ لأنها كاملة الحضور على الدوام، إنها امتداد الحقيقة التي تأبى الزوال مهما تكالبت عليها الخطوب، والقدس ليست مدينة فحسب، إنها حاضرة الحواضر، وزينة الدنيا ومهوى القلوب والأفئدة، إنها موطن السلام والجامعة لكل أسرار الصمود لشعب الجبارين الذي يحتضن جذوة المقاومة منذ قرابة العقود السبعة. إننا نستطيع أن نصف كثيرا من المدن من المحيط على الخليج بأنها مدن عربية، لكن القدس وحدها قامت وشيدت وتهيأت لتسود؛ فسادت- من عروبة خالصة؛ وكان ذلك قبل الميلاد بنحو ثلاثة آلاف عام، وكان اليبوسيون وهم شعب سامي من شبه الجزيرة العربية، انتقل مع الكنعانيين إلى بادية الشام، وسكن اليبوسيون الخيام والكهوف في المنطقة ما بين رام الله والسهل، عند تل الضهور، وما لبث اليبوسيون أن أقاموا أول حصن لهم هناك تحول مع الوقت إلى مدينة أطلق عليها اسم "يبوس" ثم تغير الاسم إلى "شاليم" التي تعني إله السلام، ويذكر أن الكنعانيين كانوا قد توجهوا للساحل عند قدومهم إلى بلاد الشام، لكنهم عادوا وسكنوا المدينة إلى جوار اليبوسيين الذين كانت تربطهم بهم صلات كثيرة، وقد عرف اليبوسيون بخصال حميدة كحب العدل ونصرة المظلوم، والتسامح والبعد عن العدوان وقد اشتهر من ملوكهم " ملكي صادق" الذي ورد اسمه في سفر التكوين من العهد القديم، وكان يدعى كاهن الله العلي، والذي دعا لإبراهيم –عليه السلام- " «مُبَارَكٌ أَبْرَامُ مِنَ اللهِ الْعَلِيِّ مَالِكِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ" سفر التكوين19:14. وفي التوراة* وردت كلمة أورشليم التي تلفظ بالعبرية "يروشالايم" أكثر من 680 مرة، وهذه الكلمة مشتقة مباشرة من التسمية الكنعانية الأصلية. وتطلق التوراة كذلك على المدينة أسماء أخرى كثيرة هي "شاليم" و"مدينة الله" و"مدينة القدس" و"مدينة العدل" و"مدينة السلام"، وتذكرها أحيانا باسم "بيوس" أو "مدينة اليبوسيين". عندما خرج موسى ببني إسرائيل من مصر، بقوا في سيناء لمدة أربعين سنة (التيه) ولم يستطع موسى ومن معه دخول فلسطين من الجنوب إذ أنهم خافوا مواجهة أهلها الذين أسموهم ( قوما جبارين) لذلك سار موسى بقومه في اتجاه شرق نهر الأردن، ولكنه عندما وصل إلى هناك وجد العرب من الأدوميين والعموريين قد أعدوا العدة لمواجهته، فسلك طريق العقبة، ومنها إلى الصحراء حيث توفي -عليه السلام- قرب" معان" وخلفه في قيادة بني إسرائيل خادمه يوشع بن نون الذي دخل أريحا في 1260 ق.م فدمرها بالكلية وأباد من فيها عن بكرة أبيهم. وتوضح رسائل تل العمارنة استغاثات حاكم المدينة العربي "عبدي-هيبا" بفرعون مصر "أخناتون" – كانت فلسطين آنذاك تخضع للسيادة المصرية- ومطالبته للفرعون بزيادة عدد أفراد الحامية المصرية، نظرا لخطورة الغارات المتكررة التي يقوم بها " العبيرو" أي العبرانيين، وكان ذلك قبل الميلاد بنحو أربعة عشر قرنا، وكان العبرانيون آنذاك يشكلون خليطا من الأعراق بقيادة داود النبي الذي سيدخل المدينة فيما بعد ويقيم مملكته التي ستمتد في عهده وعهد ولده سليمان لنحو سبعين سنة، وقد أطلق داود اسمه على المدينة التي كان سكانها من اليبوسيين والكنعانيين والعموريين والفلسطينيين الذين اجتازوا البحر من جزيرة كريت وجزر اليونان، وأقاموا بالمدينة وحولها. بعد وفاة سليمان حدث انقسام بين القبائل إذا اتفقت عشر قبائل على مبايعة "بريعام" ملكا على مملكة "إسرائيل" التي عاصمتها شكيم، بينما بويع ابن سليمان الذي يدعى" رحبعام" ملكا على "يهودا" التي عاصمتها القدس، وما لبثت أن دخلت المملكة الأولى في صراع مع الأشوريين أضعفها، أما "يهودا" فقد تعرضت لغزو المصريين الذين نهبوا الهيكل، لكن المملكة استعادت عافيتها بسرعة في عهد الملك "عزريا" الذي قام بتوسيع مملكته على حساب مملكة الشمال التي كانت قد انهارت بالفعل، مما جعلها في مواجهة الأشوريين الذين اضطروا ملكها "حزقيا" على دفع الجزية، ولكنه ما لبث أن امتنع عن الدفع بتحريض من المصريين، وربما كان طامعا في استثمار الصراع بين مصر وآشور لصالحه، ولكن الأشوريين أرسلوا الحملة تلو الحملة حتى حاصروا القدس، ولكن حصارهم لم يسفر عن شيء نظرا لقوة تحصينات المدينة، واستعداد "حزقيا" الجيد للحصار بمساعدة المصريين، مما اضطر الأشوريين لإنهاء الحصار بعد اعترافهم بسلطة "حزقيا" وأحقيته في الاحتفاظ بالعرش، وقد تعهد" حزقيا بدوره بدفع ما عليه من أموال متأخرة، وإطلاق من كان لديه من رهائن، وإرسالهم إلى "نينوى". وفي عهد الملك يوشيا كانت الدولة الآشورية آخذة في الانهيار أمام الدولة البابلية الجديدة، الأمر الذي شجع "يوشيا" على التوسع في فلسطين، وكان المصريون في عهد "نيخاو" قد عزموا على التوسع باتجاه سورية، وعند "مجدو" حاول يوشيا الذي عد نفسه تابعا لدولة بابل الجديدة وقف تقدم الجيش المصري، ولكنه أخفق وقتل في المعركة، فقام "نيخاو" بمساعدة "يهوياقيم بن يوشيا" لاعتلاء عرش البلاد، كما حرضه على إعلان العداء للبابليين الذين لم ينتصروا لأبيه، واندفع "يهوياقيم" بطيش يتحدى الملك العظيم نبوخذ نصّر الذي كانت شهرته العسكرية قد طبقت الآفاق بعد انتصاره المؤزّر على المصريين في كركميش عام605ق.م وفي عام 597 ق.م. لم يوفق يهوياقيم في الدفاع عن بيت المقدس فدخلها نبوخذ نصر وقتل ملكها. ولم يكن ابن ملك يهوذا، بأكثر حكمة من والده إذ ثار بعد ثلاثة أشهر، وسرعان ما وجد نفسه محاصرا، ووقع في قبضة نبوخذ نصّر هو وأسرته وعدد من أتباعه منهم النبي "حزقيال" وسيقوا جميعا إلى بابل. ثم قام نبوخذ نصّر بتعيين "صدقيا" ملكا على يهودا، وقد تظاهر في بداية الأمر بالولاء لنبوخذ نصّر، ولكنه حاول الاستقلال بعد مدة استجابة لرغبات الزعماء الوطنيين، وللتحريض المباشر من المصريين الذين أغدقوا على المملكة المعونات والهبات، وأمام هذا الاستعداء لم يجد نبوخذ نصر بدا من العودة بجيشه؛ لإنهاء الأمر بشكل حاسم ، وكان صدقيا قد حصن بيت المقدس تحصينا جيدا بمساعدة المصريين، واستمر حصار البابليين للمدينة نحو سنة ونصف، إلى أن سقطت في أيديهم عام586ق.م؛ فأحرقها الملك البابلي، وهدم هيكلها وقتل أبناء صدقيا أمامه، ثم سمل عينيه، وأقتاد عددا كبيرا من سكان بيت المقدس اليهود إلى بابل( السبي البابلي الأول لليهود) وكانوا نحو سبعة آلاف جندي ومعهم ألف عامل، ولم يترك البابليون سوى من كلفوا القيام بالأعمال الزراعية. وقام نبوخذ نصر بتنصيب جداليا بن أخيقام حاكما على المدينة المقدسة، بعد هذا الحدث لم يبق اليهود على انغلاقهم على أنفسهم، إذ علموا أن ذلك سيجعلهم هدفا سهلا لبطش البابليين؛ فقاموا بالاتصال بالفلسطينيين والعمونيين والموآبيين، وكثر التزاوج فيما بينهم، ونشأ جيل جديد سادت بين أفراده العبادات البابلية والمصرية والكنعانية والانصراف عن عبادة يهوه.