مثلما استمرت دولة مماليك الفساد بعد سقوط نظام مبارك "رسميا"، استمرت دولة المماليك حتى نهاية القرن 18، برغم سقوط دولتهم "رسميا" بعد شنق العثمانيين لآخر سلاطينهم (طومان باي) على باب زويلة في القرن 16..! العبرة إذن بالوضع على الأرض، وليس بالشعارات، والخطب الرسمية، لذلك اقتضت "الضرورة" اقتسام السلطة، والتواطؤ على تكوين تحالف شرير بين فلول المماليك والقوة العسكرية المهيمنة لوكلاء السلطان العثماني، وكانت مهمة التحالف الأساسية هي نهب خيرات الشعب المصري وتكبيله بالفقر والجهل والمرض، وبين السلطتين (المتواطئتين أحيانا والمتصارعتين أحيانا) ظهرت مع الوقت نخبة مصرية من شيوخ الأزهر وكبار التجار والمتعاونين مع السلطتين حسب اتجاه المصالح الفردية، وظلت هذه السلطة الثالثة "ثالثة"، فلا هي مع المستعمر تماما، ولا هي مع الشعب تماما، لا تنتمي إلى العثمانين تماما، ولا تأمن للمماليك تماما، ظلت سلطة «المشايخ» متأرجحة ومتوترة وتحمل أمراض "البرجوازية الصغيرة" كما شاعت بعد ذلك في الفكر السياسي والدراسات الطبقية، لذلك كانت تلعب مرة دور الوسيط بين السلطة والناس، لتسهيل علاقة «الناهب بالمنهوب»، وتلعب مرة دور المعبر عن شكاوى الناس، فتستخدم مطالبهم لتعظيم حظوظها من الثروة والمكانة! لم يكن هذا الدور "النفعي" سلبيا على طول الخط، لأن ذلك قد يدعو الى ثورة الناس وخروجهم على طاعة شيوخهم، كما أنه لم يكن إيجابيا دائما حتى لا يغضب أمراء السيف وأصحاب السلطان، وهم عادة الذين يكتبون التاريخ الرسمي الذي ينحاز دائما للكبار، ولا يذكر إلا مآثرهم، ولهذا وصلتنا مآثر الشيوخ ومواقفهم الشجاعة لنصرة الضعفاء والفقراء، أما في الواقع فكانت الصورة مختلفة إلى حد كبير، ففي الوقت الذي تحسنت فيه حياة كبار الشيوخ، وصاروا يمتلكون النفوذ والعلاقات مع الأمراء والاقطاعيات في الأرياف، كان الشعب يعيش في ضنك وبؤس عظيم، لكن الصوت الرسمي ظل يتحدث عن انتصار الشيوخ للفقراء على الطريقة التي نسمعها حتى الآن: ماتوصنيش على الفقراء.. الفقراء عمري كله، عمري كله للغلابة، وحتى نعرف حال الفقراء والغلابة في تلك الفترة تعالوا نقرأ هذا المقتطف القصير الذي وصف فيه الرحالة فولني مأساة الشعب الذي بنى أقدم حضارة في التاريخ بنات من مصر … محفوظة في متحف بروكلين بالولايت المتحدة : «الفلاحون آلات مأجورة، لا يترك لهم من المعاش إلا ما يقيهم من الموت، وما يحصدونه من أرز وحنطة يذهب الى موائد سادتهم، ولا يحتفظون لأنفسهم الا بالذرة، يصنعون منها خبزا بلا خمير، لا طعم له اذا كان باردا، يخبزونه فوق وقود من روث الأبقار والجاموس، ويأكلونه طوال العام مع الماء والبصل، والموسر منهم يتخلل طعامه هذا قليل من العسل والجبن واللبن الرائب، أما اللحم والدهن فلا يعرفونهما إلا في الأعياد والمواسم الكبرى وفي بيوت أهل السعة منهم». هذه الصورة المأساوية غير الانسانية المأخوذة من كتابات فولني ورحالة آخرين عن أحوال التجار والصناع والنوتية قد تتناقض في وجهة نظر البعض مع كتابات المؤرخين المعاصرين عن جهود وأمجاد العلماء والمشايخ، الذين كانوا يقفون في وجه الظلم ويناصرون الفلاحين في مواجهة عسف الوالي وبطش أمراء المماليك، وتعالوا نقرأ على سبيل المثال هذه الفقرة من تاريخنا الرسمي: المؤرخ فولني لما حدثت الفتنة بين كبار المماليك وعلي بك الكبير، واستعد الطرفان للقتال تدخل الشيخ محمد الحفني «ثامن شيوخ الأزهر» وأغلظ القول للمماليك وقال لهم: «انكم خربتم الديار بخصامكم»، فأجابوه: «إذا لم نحاربه فسيحاربنا»، فكتب الشيخ الحفني خطابا لعلي بك الكبير بلهجة شديدة، فنزل الجميع على رأيه وانتهت الفتنة، ويقول الجبرتي معقباً: "وعلى الرغم من اتساع نفوذ علي بك الكبير وسيطرته على مصر والحجاز والشام فقد كان لا يجرؤ على مخالفة الشيخ الحفني.. فقد كان الأستاذ (لقب الشهرة للحفني بين تلاميذه) شجاعا في الحق والجرأة على الأمراء، مبجلا بين الكبار والولاة ولم يكن أمر من أمور الدولة وغيرها يتم، إلا بإطلاعه ومشورته، حتى أن الوالي راغب باشا وصفه بأنه "سقف الأمان" لأهل مصر، يمنع عنهم نزول البلاء، ويناصر الضعفاء، وينصف المظلوم. لذلك لما مات "الأستاذ" فجأة، سقط معه "سقف الأمان"، وسرت شائعات في القاهرة، أن أمراء المماليك دسوا السم في طعام الشيخ للتخلص منه، وقد ورد جانب من هذا على لسان الجبرتي حيث كتب: لقد أشغل الأمراء الأستاذ، ودسوا له السم في الطعام. الشيخ محمد الحفني هذه الروايات ناقصة، وتكشف عن جانب واحد من المآثر التي يرددها المقربون من هذا ومن ذاك، لكن نفس الروايات توحي بأن العلاقة بين الشيوخ والأمراء يكتنفها الغموض والإزدواج، برغم ما هو معلن على السطح من تقدير وتبجيل لا يخفى غرضه أحيانا، لكننا سنعترض جانبا من هذه الروايات الرسمية، قبل تحقيق بعضها في الفترة القليلة القريبة من دخول الفرنساوية إلى القاهرة، فكتب التاريخ تقول إن الوالي علي باشا بن الحكيم كان يبجل الشيخ أحمد بن عبدالمنعم البكري «نقيب الأشراف»، ولا يرد له طلبا ويعمل بنصائحه وكلما لاقاه قبل يده، كما تحكي عن موقف معارض للشيخ سليمان المنصوري (من كبار علماء الأزهر في ولاية بكير باشا) حيث صدر مرسوم عثماني بإبطال بعض مخصصات الأيتام للخيرات، فتصدى الشيخ للمرسوم، وأعلن أن ذلك "مخالف لأوامر الله وتعطيل للشعائر ووقوف في سبيل الخير، ولن يسلم الحاكم من عقاب الله اذا أصر على ذلك"، فخاف بكير باشا وكتب للسلطان، فرد جميع المخصصات وزاد عليها واعتذر للشيخ المنصوري. وفي أوج سطوة "أهلي وزمالك السلطة" في تلك الفترة.. الأميران المتصارعان «ابراهيم بك» و«مراد بك»، كانا يتقربان من شيوخ الأزهر وعلمائه الكبار، لعلمهما بمكانة الشيوخ لدى الناس، وذات مرة صادر الوالي «يوسف بك» عقارا موقوفا على الأزهر فكتب «الشيخ الدردير» خطابا للوالي يطالبه برد العقار وعدم التدخل في شؤون الأزهر، فسجن الوالي حامل الخطاب، فأمر الشيخ بإبطال الدروس في الأزهر وأغلق المسجد ، وكانت هذه من اقوى وسائل الاحتجاج كتعطيل الزند للعمل بالمحاكم ايام حكم الإخوان، وتعطيل نقابة الأطباء العمل في المستشفيات احتجاجا على اعتداء شرطي على طبيب) ولما علم الناس بموقف الشيخ الدردير أغلقوا الحوانيت وتجمعوا حول الأزهر، وبدأت نذر الثورة، فتحرك الأمراء وأرغموا الوالي على إطلاق سراح السجين، والسير الى الشيخ الدردير لاسترضائه ففعل ذلك صاغرا، وأرسل إلى العلماء واسترضاهم. مراد بك وفي ولاية «حسين بك» تجرأ على الجميع، وتعامل بقوة وطغيان مع الجميع، وأمر جنوده باقتحام بيت الشيخ أحمد سالم شيخ دراويش البيومي، فنهبوا ما فيه من أثاث ومصاغ، ولما رأى أهل الحسينية وتوجهوا الى الشيخ الدردير فأغلق المسجد، ونادى بالكفاح، وتحركت الأحياء المجاورة فخاف الأمراء، وأكرهوا «حسين بك» على رد ما نهبه، والاعتذار للشيخ الدردير وقرأوا معه الفاتحة ألا يعود لمثل هذا. وتتواصل الحكايات عن مكانة شيوخ الأزهر، وصورتهم الناصعة في كتب التاريخ التي سجلت بفحر دورهم في مواجهة الظلم والبطش الذي مارسه أمراء المماليك، والولاة العثمانيون، فقد حدث أن الوالي "طاهر باشا" غضب على «مصطفى أغا الوكيل» فلجأ الوكيل لبيت شيخ السادات، فركب الى طاهر باشا، وعنفه فتقبل الوالي ذلك راضيا، واعتذر له وأمن «مصطفى أغا»، وفي ولاية "حسين باشا الجزار" انقلب على أمراء المماليك، وطردهم من القاهرة، واستباح أموالهم ونساءهم، فذهب اليه شيخ السادات، وسأله مستنكراً: «هل أتيت إلى مصر لإقامة العدل ورفع الظلم أم أتيت لبيع الحرائر وأمهات الأولاد وهتك الحريم؟، وهدده بالكتابة للسلطان، فخاف الوالي ورد المظالم.. لكن المظالم هذه المرة لم تكن للشعب، ولكن لأمراء السيف فيما بينهم، وهذه الملاحظة تقربنا خطوة من حقيقة الدوافع التي تحتشد بها كتب التاريخ عن مواجهة الشيوخ لبطش السلطة، وتصل إلينا كمآثر عظيمة وبطولات في مقاومة الظلم ونصرة الفقراء. وفي المقال المقبل نتناول القصة المزدوجة بعد تقليب وجهي العملة. [email protected]