وصل الوالي العثماني ليتسلم حكم مصر، وفي أول زيارة لولايته الجديدة توجه لزيارة مشايخ وعلماء الأزهر الشريف، فهو كان يعلم جيدا قوة الشيوخ وقدرتهم علي تحريك الثورات ضد حكمهم وظلمهم للرعايا، فدخل المسجد ووجد " الشيخ أحمد الدردير" جالسا مادا قدميه وبين يديه كتاب الله، فلم يلتفت الشيخ للوالي ولم يقطع قراءته ولم يتحرك لاستقباله، فغضب الوالي غضبا شديدا وتوعده بالعقاب، وتدخل واحد من حاشيته فهدأ من غضبه بعد أن قال له إن الشيخ ضعيف العقل، قليل الفهم، فهدأ غضب الوالي وقرر أن يرسل "صرة من المال" للشيخ فرد عليه الشيخ" قل لسيدك من مد رجليه، فلا يمكن له أن يمد يديه " ذلك هو الشيخ أحمد بن أبي حامد العدوي المالكي الأزهري الشهير بأحمد الدردير " أبو الكرامات" وقاضي حوائج الناس، والمتصدر للحق، الساعي إلي الخير، العالم الأزهري، المتصوف الزاهد التقي، المفتي علي المذهب المالكي، وناظر وقف الصعايدة وشيخ علي طائفة الرواق. ولد الشيخ عام 7211 هجرية 5171 ميلادية بقرية بني عدي في أسيوط والتي كانت تسكنها قبيلة "بني عبيد" القرشية، وينتهي نسب الشيخ أحمد الدردير إلي ثاني خلفاء رسول الله([) "عمر بن الخطاب" (]) وحمل "أحمد" لقب الدردير " عن جده الذي ولد في نفس الليلة التي وفد فيها إلي القرية مجموعة من رجال قبيلة عربية كان كبيرهم يسمي "الدردير" وكان رجلا عالما، فاضلا، مباركا، غزير العلم والفضل، فحمل جد الشيخ أحمد لقبه تيمنا به وأصبح الاسم لقبا للأسرة، وكان والده عالما، تقيا، يلجأ إليه أهل قريته لطلب المشورة والنصيحة منه، عرف عنه أنه كان قليل الكلام، لايكف عن قراءة القرآن والتسبيح والاستغفار، وكان والده رجلا ميسور الحال، وكان يكسب رزقه من تعليم وتحفيظ القرآن وتعليم اللغة العربية وآدابها، واشتهر "كتاب" الشيخ محمد الدردير فهو لم يكن يحفظ القرآن ويعلمه كوظيفة وإنما كان عالما متفقها، صوفيا، فقد بصره في أواخر عمره، ولم يثنه ذلك عن رسالته التي كان يؤمن بها في تحفيظ كتاب الله، فاستمر يعلم الأطفال ويحفظهم القرآن. ومات بعد أن أصيب بالطاعون وكان عمر "أحمد الدردير" عشرة أعوام، كان والده قد غرس في نفسه آيات القرآن الكريم، ومكارم الأخلاق وحب العلم، والسعي لتحقيقه، وبدأت ملامح النبوغ تبدو عليه حتي أن قبيلته اجتمعت وقررت أن ترسله ليستكمل دراسته وعلمه في الأزهر الشريف، بعد أن شعروا أنهم مسئولون عن تحقيق بشارة والده عنه "بأنه سيكون من كبار العلماء" . وتعلم في الأزهر علي يد شيخ الأزهر العالم الجليل الشيخ شمس الدين الحفني وكان عالما غزير العلم، بليغ الكلمات وصفه الإمام الدردير قائلا: الإمام المهيب الذي كانت الملوك تخضع لهيبته، السخي الذي شهد الأعداء بهمته وسخائه"وتقول الدكتورة سعاد ماهر في كتابها "مساجد مصر .. وأولياؤها الصالحون: إن الإمام أحمد تلقي العلم علي الشيخين علي الصعيدي والحفني وتأثر بالشيخ الحفني تأثرا روحيا فتصوف علي يديه وتلقي منه الذكر وطريق الخلوتية حتي صار من أكبر خلفائه، ومما يدل علي تفوقه علي أقرانه أن أساتذته قد سمحوا له بالإفتاء في حياتهم وفي حضرتهم، وكان يضرب به المثال في العفة والزهد والتقشف " ويروي الجبرتي عن الإمام أحمد الدردير واقعة تظهر كرم نفسه وزهده وورعه، " ويقول إن مولاي محمد سلطان المغرب كان يرسل كل عام بعض الصلات إلي علماء الأزهر، وكان ابن السلطان قد وفد إلي القاهرة في طريقه إلي مكة لتأدية فريضة الحج، فتخلف بها فترة ونفد ما معه من المال، وتصادف في ذلك الوقت أن حضر رسول والده السلطان يحمل معه ما تعود إرساله من الصلات للعلماء، فرفض الشيخ الدردير أن يتسلم نصيبه منها، وقال : والله هذا لا يجوز، وكيف إننا نتفكه في مال الرجل ونحن أجانب وولده يتلظي من العدم، هو أولي مني وأحق فأعطوه قسمي" . واستمر الشيخ في الدراسة إلي أن أصبح من العلماء المعدودين، وألف العديد من الكتب في الفقه، والتفسير، والتوحيد، والسيرة، والقراءات، والبلاغة، والتصوف. فلم يسلك الإمام أحمد طريق التصوف إلا في موعد محدد وذكر ذلك الإمام الدكتور عبد الحليم محمود في كتابه أبو البركات سيدي أحمد الدردير " أنه في عام 0611 هجرية بدأ حياته في التصوف، وكان عمره وقتها ثلاثة وثلاثين عاما، فذهب في نفس العام إلي شيخه في الحديث الشيخ الحفناوي لأخذ الطريق وقد ترك لنا بقوله وثيقة نفيسة في ذلك يقول فيها " وقد كان سبقت لي إشارة قبل الاجتماع عليه أني سأسير بسيره، فلما كان أوائل المحرم الذي هو مفتتح عام سنة ستين ،ذهبت إليه بعد عصر الخميس، وذكرت معه الورد، ثم بعد أن ختمه تقدمت إليه لقصد التلقين، فوضعت يدي في يده، فقال بعد الاستغفار والدعاء: اسمع مني الذكر ثلاثا، واغمض عينيك وقله بعدي ثلاثا، ثم قال : لا إله إلا الله، ثلاثا، وقلت ذلك بعده ثلاثا، ومن ذلك الوقت رجعت عن الخواطر الرديئة التي كانت تكثر مني في حب الدنيا من بركته، ثم مكثت نحو ستة أشهر حتي أحرق الذكر جسمي، وأذهب لحمي ودمي، حتي صار مجرد جلدي علي عظمي، لقنني الاسم الثاني "هو الله" بأن وضع فاه علي أذني اليمني ثم قال : الله ثلاث مرات، حتي غبت عن وجودي ثم قلت ذلك بعده ثلاثا، وفي ليلة الجمعة وبعد صلاة المغرب لعشر خلت من رمضان الذي هو من شهور سنة 36 لقنني الاسم الثالث، وهو "هو" بمد وهمة في أذني اليمني كذلك، وكنت في هذا المقام كثير الحزان، ذاهلا عن حالي ،متلذذا بذلي، فرحا بمسكنتي، كثيرا ما يرد علي لا أدري ما يفعل بي، وفي صبيحة يوم الاثنين قبل طلوع الشمس الذي هو ثالث عشر ذي الحجة الحرام لقنني الاسم الرابع وهو "حق" في أذني اليمني كذلك وقال لي : هذا أول مقام يضع المريد فيه قدمه في طريق أهل الله، فلتكن علي حالة طيبة، وفي سنة 46 يوم الأحد الذي هو خامس شهر رجب قبل طلوع الشمس لقنني الاسم الخامس وهو "حي" في أذني اليمني وفي ليلة الجمعة التي هي خامس ليلة من شوال لقنني الاسم السادس وهو "قيوم" في أذني اليمني كذلك، وكنت في هذا المقام لا أعي شيئا، مع أني كنت أخاطب الناس بأحسن الخطاب، وفي ليلة الاثنين التي هي ليلة السادس والعشرين من رمضان سنة 56 لقنني الاسم السابع وهو "قهار" في أذني اليسري لسر يعلمونه، وفيه حصل لي بعض الصحو . وكانت الأسماء السبع التي تلقاها الإمام الدردير في البداية ترتبط بالنفوس السبع كما يوضح لنا الدكتور صابر عبد الدايم عميد كلية اللغة العربية وأستاذ الأدب بجامعة الزقازيق، وأن أطوار النفوس السبعة فكل واحدة يناسبها من الأسماء ما يقتضي علي فنائها علي صفاتها المذمومة وتمزيق حجبها الحائلة بينها وبين مشاهدة الحق تبارك وتعالي فعلي سبيل المثال، النفس الأمارة بالسوء ذات الحجب المظلمة، ومقامها ظلمات الأغيار يوافقها الاسم الأول وهو "لا إله إلا الله" وكانت الأسماء السبع هي البداية فقط واستمر الشيخ الجليل في تلقي أسماء الله الحسني وأسرارها وتبحر في شروحاتها وككل الأئمة الكبار لم يسر الإمام أحمد في طريق التصوف إلا بعد معرفة عقائد الإيمان الصادقة وكما قال هو نفسه "مالم يلتزم الإنسان الكتاب والسنة فإنه لايكون سائرا في طريق التصوف" ولم يمنعه علمه وتلقيه أسرار العلم الصوفي عن مساعدة الفقراء ونصرة المظلومين، ولم يكن أحد يقصده إلا ويسرع بركوب "حماره" ليقضي له حاجته ويذكر الجبرتي عن الشيخ قوله" وله في السعي علي الخير يد بيضاء" ومن هنا جاء تفسير العبارة المشهورة التي ارتبطت به في زمانه ومازال يرددها المترددون علي ضريحه "ياسيدي أحمد يادردير، اركب الحمارة واقض العبارة" فقد كان الشيخ العالم المتصوف قويا جريئا شجاعا متعبدا حتي أنه كان له محراب خاص يصلي فيه عرف باسم "محراب الدردير" إلا أن تعبده لم يمنعه من مواجهة الحكام والولاة والوقوف بجانب المظلومين ويذكر الجبرتي واقعة تدل علي شجاعة الإمام أحمد فهو يقول: حدث سنة 0021 هجرية أن اعتدي أحد صناجق مراد بك علي منزل أحمد سالم الجزار بالحسينية ونهب هو ورجاله كل مابه من متاع وأخذ ما علي النساء، فثار أهل الحي وذهبوا إلي الجامع الأزهر مسلحين بالنبابيت وصعد منهم جماعة إلي أعلي المسجد يدقون الطبول، واستجاروا بالشيخ الدردير فقال لهم : في غد نجمع جميع أهالي الحي والحارات المجاورة وحتي بولاق ومصر القديمة وأركب معكم وننهب بيوتهم كما ينهبون بيوتنا ونموت شهداء أو ينصرنا الله عليهم" فلما كان بعد غد حضر سليم أغا ومحمد كتخدا الجلفي وغيرهما من أمراء المماليك وجلسوا في الغورية ثم ذهبوا إلي الشيخ الدردير وتكلموا معه وخافوا من تضاعف الحال، وقالوا للشيخ: اكتب لنا قائمة بالمنهوبات، ونأتي بها من محل ما تكون، واتفقوا علي ذلك وقرأوا الفاتحة. واستمر الشيخ في تحصيل العلم وكتابة المؤلفات ومن أهمها " أقرب المسالك لمذهب مالك" ورسائل في طريقة حفص في القراءات ورسالة في متشابهات القرآن، وكان الشيخ يختلي في زاويته بعد عودته من الحج في عام 1911هجرية وظل مقيما بها حتي توفي في شهر ربيع الأول سنة 1021 هجرية فدفن بها، ومازال البسطاء يتوجهون لزيارة مقامه وهم يطلبون منه أن يركب حماره كما كان يفعل ويشوف لهم العبارة كما اعتاد رحمة الله عليه حل مشكلات الناس .