نحن الآن فى نهاية القرن ال18، مصر أم الحضارات، مجرد ولاية تابعة للباب العالى يحكمها الولاة والجباة، ومع ذلك لم تنته سلطة المماليك بعد سقوط دولتهم رسميا مع شنق آخر سلاطينهم طومان باى على باب زويلة، ودخول السلطان العثمانى سليم الأول إلى مصر (فاتحا أو «غازيا» لا يهمنا الآن، فالأمر لا يزال محل نقاش بعد مرور خمسة قرون).. الوضع إذن يبدو تحالفا شريرا بين بقايا المماليك ووكلاء السلطان العثمانى، لنهب خيرات الشعب المصرى وتكبيله بالفقر والجهل والمرض، وبين السلطتين (المتواطئتين أحيانا والمتصارعتين أحيانا) كانت سلطة «المشايخ» حلقة وسطى، تلعب دور الجسر بين السلطة والناس، أو لنقُل بوضوح بين «الناهب والمنهوب»، ولم يكن هذا الدور سلبيا على طول الخط، لأن ذلك قد يدعو إلى ثورة الناس وخروجهم على طاعة شيوخهم، كما أنه لم يكن إيجابيا دائما حتى لا يغضب أمراء السيف وأصحاب السلطان، لكن التاريخ الرسمى ينحاز دائما للكبار، ولا يذكر إلا مآثرهم، فى الوقت الذى وصف فيه الرحالة فولنى مأساة الشعب المصرى فى تلك الفترة قائلا: «الفلاحون آلات مأجورة، لا يترك لهم من المعاش إلا ما يقيهم من الموت، وما يحصدونه من أرز وحنطة يذهب إلى موائد سادتهم، ولا يحتفظون لأنفسهم إلا بالذرة، يصنعون منها خبزا بلا خميرة، لا طعم له إذا كان باردًا، يخبزونه فوق وقود من روث الأبقار والجاموس، ويأكلونه طوال العام مع الماء والبصل، والموسر منهم يتخلل طعامه هذا قليل من العسل والجبن واللبن الرائب، أما اللحم والدهن فلا يعرفونهما إلا فى الأعياد والمواسم الكبرى، وفى بيوت أهل السعة منهم». هذه الصورة المأساوية غير الإنسانية المأخوذة من كتابات فولنى ورحالة آخرين عن أحوال التجار والصناع والنوتية، قد تتناقض فى وجهة نظر البعض مع كتابات المؤرخين المعاصرين، عن جهود وأمجاد العلماء والمشايخ، الذين كانوا يقفون فى وجه الظلم ويناصرون الفلاحين فى مواجهة عسف الوالى وبطش أمراء المماليك. ففى تاريخنا نقرأ على سبيل المثال: لما حدثت الفتنة بين كبار المماليك وعلى بك الكبير، واستعد الطرفان للقتال تدخل الشيخ محمد الحفنى، وأغلظ القول للمماليك وقال لهم: «إنكم خربتم الديار بخصامكم»، فأجابوه: «إذا لم نحاربه فسيحاربنا»، فكتب الشيخ الحفنى خطابا لعلى بك الكبير بلهجة شديدة فنزل الجميع على رأيه وانتهت الفتنة، وعلى الرغم من اتساع نفوذ على بك الكبير وسيطرته على مصر والحجاز والشام، فقد كان لا يجرؤ على مخالفة الشيخ الحفنى. وكان والى مصر على باشا بن الحكيم يحترم الشيخ أحمد بن عبد المنعم البكرى «نقيب الأشراف»، ولا يرد له طلبا، ويعمل بنصائحه، وكلما لاقاه قبّل يده. وفى ولاية بكير باشا ورد مرسوم عثمانى بإبطال بعض مخصصات الأيتام للخيرات، فتصدى الشيخ سليمان المنصورى من كبار علماء الأزهر لهذا الأمر، وأعلن أن ذلك مخالف لأوامر الله وتعطيل للشعائر ووقوف فى سبيل الخير، ولن يسلم الحاكم من عقاب الله إذا أصر على ذلك، فخاف بكير باشا وكتب للسلطان، فرد جميع المخصصات وزاد عليها واعتذر إلى الشيخ المنصورى. وكان إبراهيم بك ومراد بك، وهما من أشهر زعماء المماليك يترددان على شيوخ الأزهر وعلمائه الكبار، ومنهم الشيخ الدردير، لعلمهما بمكانته لدى الناس، وذات مرة صادر يوسف بك والى مصر (عام 1191ه) عقارًا موقوفًا على الأزهر فكتب إليه الشيخ الدردير خطابا لرد العقار وعدم التدخل فى شؤون الأزهر، فسجن الوالى حامل الخطاب، فأمر الشيخ بإبطال الدروس فى الأزهر وأغلق المسجد وعلم الناس فأغلقوا الحوانيت وتجمعوا حول الأزهر، وبدأت نُذُر الثورة، فتحرك الأمراء وأرغموا يوسف بك على إطلاق سراح السجين، والسير إلى الشيخ الدردير لاسترضائه ففعل ذلك صاغرًا، وأرسل إلى العلماء واسترضاهم. وحدث أن تولى مصر طاغية جبار يدعى حسين بك، الذى اقتحم هو وجنوده بيت الشيخ أحمد سالم شيخ دراويش البيومى، ونهبوا ما فيه من أثاث ومصاغ، فثار أهل الحسينية وتوجهوا إلى الشيخ الدردير فأغلق المسجد ونادى بالكفاح، وتحركت الأحياء المجاورة فخاف الأمراء، وأكرهوا حسين بك على رد ما نهبه، والاعتذار إلى الشيخ الدردير، وقرؤوا معه الفاتحة أن لا يعود لمثل هذا. وغدًا نكمل.