تحدثنا عن مكانة شيوخ الأزهر، واستعرضنا صورتهم الناصعة فى كتب التاريخ التى سجلت بفخر دورهم فى مواجهة الظلم والبطش الذى يمارسه أمراء المماليك، والولاة العثمانيون، ومما سجله التاريخ أن طاهر باشا الوالى غضب على «مصطفى أغا الوكيل» فلجأ الوكيل إلى بيت شيخ السادات، وكان من كبار العلماء، فركب إلى طاهر باشا وعَنَّفَه فتقبل الوالى ذلك راضيًا، واعتذر إليه وأمّن «مصطفى أغا»، ولما ولى حسين باشا الجزار حكم مصر طرد أمراء المماليك واستباح أموالهم ونساءهم، فذهب إليه شيخ السادات وقال له: «أتيت إلى مصر لإقامة العدل ورفع الظلم أم أتيت لبيع الحرائر وأمهات الأولاد وهتك الحريم؟، وهدده بالكتابة للسلطان، فخاف ورد المظالم. ويحكى كتاب صادر عن الأزهر أن جماعة من فلاحى بلبيس قصدوا الشيخ عبد الله الشرقاوى شيخ الجامع الأزهر، وشكوا إليه ظلم «محمد بك الألفى» فطلب من «إبراهيم بك ومراد بك» (من طبقة الحكام) أن يردعا «الألفى» لكنهما رفضا، فأغلق الشيخ الشرقاوى المسجد وتضامن معه الأهالى، ثم توجه فى مسيرة إلى بيت «الشيخ السادات»، فخاف أمراء المماليك من مغبة هذا الموقف وردوا المظالم إلى أهل بلبيس، لكن الشيخين الشرقاوى والسادات أصرَّا على أن يكتب الوالى وثيقة بعدم فرض ضرائب جديدة، ووقع الوالى الوثيقة مضطرًّا. هذه المآثر والجهود التى بذلها المشايخ من أجل التصدى لظلم الحكام تدعونا إلى طرح سؤال ساذج يقتضيه المنطق: لماذا إذن لم تسفر جهود العلماء والشيوخ عن الاقتراب من ميزان العدل الاجتماعى، وانتشال الفقراء من فقرهم المزمن؟ ولماذا استمرت ثنائية «الظلم والوساطة»؟ هل كان المشايخ يركزون جهدهم على منح الفقراء «سمكة» تسد رمقهم، حتى لا يضطرون إلى تعلم الصيد والثورة؟ ليست لدى إجابة جاهزة عن هذا السؤال، فقد وعدتكم بالحكاية لتبحثوا داخلها عن الإجابات بأنفسكم، وأنبهكم أن كتاب الأزهر لم يذكر أن الشيخ الشرقاوى كانت له حصة فى هذه القرية، فى حين ذكر الجبرتى الواقعة بشكل مختلف، حيث قال إن الشيخ اغتاظ بعدما خاطب مراد بك وإبراهيم بك فلم يبديا شيئًا، فأمر بإغلاق الجامع والأسواق والحوانيت، ثم ركب وخلفه خلق كثير من العامة إلى بيت الشيخ السادات، ولما بلغ الأمر إبراهيم بك أرسل إليهم رسولا يسألهم عن مرادهم فقالوا: نريد العدل ورفع الظلم والجور وإقامة الشرع وإبطال الحوادث والمكوسات التى ابتدعتموها وأحدثتموها. فقال: لا يمكن الإجابة إلى هذا كله، فإننا إن فعلنا ذلك ضاقت علينا المعايش والنفقات. فقيل له: هذا ليس بعذر عند الله ولا عند الناس، وما الباعث على الإكثار من النفقات وشراء المماليك؟ فالأمير يكون أميرًا بالعطاء، لا بالأخذ. فقال: سأبلغ الأمير، وانفض المجلس وركب المشايخ إلى الجامع الأزهر، وباتوا فى المسجد مع العامة لحين وصول الرد. ويشير الجبرتى إلى صراعات الأجنحة داخل السلطة فيقول: أرسل إبراهيم بك إلى المشايخ يعضدهم ويقول لهم أنا معكم، وأرسل إلى مراد بك يخيفه من عاقبة ذلك، فطلب أربعة من المشايخ عينهم بأسمائهم، فذهبوا إليه بالجيزة ف«لاطفهم» والتمس منهم السعى فى الصلح، وبالفعل حضر الشيخ السادات والشيخ الشرقاوى مع الشيخ البكرى والشيخ الأمير، ومنعوا العامة من السعى خلفهم، وانعقد الصلح، وتعهد الأمراء أن يكفوا أتباعهم عن امتداد أيديهم إلى أموال الناس، ويسيروا فى العامة سيرة حسنة، وأصدر الباشا «فرمانا» ختم عليه إبراهيم بك ومراد بك. ويقول الجبرتى: «انجلت الفتنة ورجع المشايخ وسط جملة عظيمة من العامة وهم ينادون حسبما رسم ساداتنا العلماء بأن جميع المظالم والحوادث والمكوث بطالة من مملكة الديار المصرية، وفرح الناس»! عادة ما يتوقف النقل عند هذه النهاية السعيدة لجهود العلماء والمشايخ، لكن الجبرتى يقول: «فرح الناس وظنوا صحته، وفتحت الأسواق، وسكنت الحال على ذلك نحو شهر، ثم عاد كل ما كان وزيادة، ونزل بعد ذلك مراد بك إلى دمياط وضرب عليها الضرائب العظيمة وغير ذلك»! هكذا تدور الدائرة المفرغة، وهكذا تبدو جهود المشايخ كمسكنات مؤقتة لتفريغ غضب العوام وتحقيق مصالح طبقة الحكام. وغدًا نكمل