طالعتنا الأيام القليلة المنصرمة بما لا حصر له من الأحداث والمشاهد والصور التي تدمي القلوب وتؤرق العيون، وكان أبرزها على الإطلاق صورة الطفل السوري "إيلان" ثلاث سنوات، فاضت روحه الطاهرة على أحد الشواطئ التركية هرباً من الموت ليصطدم بذات المصير الذي فر منه، ليجسد لنا هذا المشهد عمق الأزمة وعمق الجراح السورية النازفة، ولتبقى هذه الصورة شاهدة على تخاذل أمة بأسرها صارت من أذل وأهون أمم الأرض. فلم نعد نرى الآن إلا الفتن تعصف بأشلاء الأمة المتناثر هنا وهناك، فمن فلسطين إلى الشيشان إلى أفغانستان إلى العراق إلى سوريا … والقائمة طويلة بطول الجراح النازفة في جسد الأمة المهزوم الهزيل، وبتنا لا نرى الدماء تتقاطر إلا من أجساد المسلمين، ولم نعد نرى أشلاء ممزقة ومتناثرة في ربوع الأرض قاطبة إلا أشلاء المسلمين، ولا ديار تضرم فيها النيران إلا ديار المسلمين، وأصبح بأسنا بيننا شديد، وأصبحت جيوشنا وشعوبنا مسخرة للفتك ببعضنا البعض، ولتدمير أوطاننا بأيدينا لا بأيدي أعدائنا، فتكالبنا على أنفسنا بدلاً من أن نتكالب على أعدائنا، وأصبح جسد الأمة الواحد ممزق يأكل بعضه بعضاً، جهلت الأمة بعد علم، وضعفت بعد قوة، وذلت بعد عز، وأصبحت الآن تتسول على موائد الغرب بعد أن كانت بالأمس القريب تقود الأمم والشعوب بجدارة واستحقاق. المأساة ليست مأساة طفل غرق في بحور التخاذل العربي، المأساة مأساة أمة بأكملها، واليوم أضع مقالتي بين أيدكم لا بغرض إثارة المشاعر والعواطف والحماس لدى من لا زالت قلوبهم وضمائرهم تنبض بما تبقى من معاني النخوة والمرؤة، التي صلبت على أبواب القهر والذل والهوان، ولكن كلماتي هي وصف صادق للواقع المؤلم الذي يجسد عمق الأزمة وعمق الآلام والغربة التي يشعر بها جل شعوب الأمة العربية والإسلامية في أوطانهم، والسؤال الذي أوجهه لنفسي قبل أن أوجهه لغيري، هل أبكت قلوبنا قبل أعيينا صورة الطفل السوري الذي اغتالت براءته وطفولته إنسانيتنا المشوهة …؟ هل اعتصرت قلوبنا كمداً وهما وحزناً لهذا المشهد المأساوي المتكرر بين حين وآخر …؟ وإن كان الجواب نعم …! فماذا بعد …؟ ماذا بعد الاستنكار والشجب والعويل …؟ ماذا بعد التغني والتباكي على ماضي الأمة العريق وتاريخها المجيد …؟ ألا نحسن غير هذا الصنيع …؟ ألهذا الحد لا نملك إلا التشبث بموقف المتفرج …؟نعم، أقولها بكل صدق لن يتغير شيئا من الواقع، ستتحرك ضمائرنا لساعات وربما لأيام، وبعدها سننسى وسيطول النسيان، فمعاناة الطفل السوري الذي يشكو الآن تخاذلنا إلى ربه هي جزء من معاناة ومأساة مئات الآلاف من اللاجئين السوريين، وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم. خذلان العرب والمسلمين لبعضهم البعض قائم ولم، ولن ينقطع أو يتغير، بل يزداد الأمر سوءً وتزداد الفجوة اتساعاً، وتزداد الفجيعة والقطيعة وتفتت الجسد الواحد، فهل نسينا ما أصاب اللاجئين الفلسطينيين من قهرٍ وذلٍ وقتلٍ وتدميرٍ وتهجيرٍ وتنكيلٍ وتشريدٍ على أيدي أحفاد القردة والخنازير، بمباركة من حاملة لواء الدعوة إلى الحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان الولاياتالمتحدةالأمريكية …؟، هل نسينا أن مشكلة اللاجئين الفلسطينيين هي أقدم وأطول وأكبر مأساة إنسانية منذ القرن العشرين …؟. عدد اللاجئين الفلسطينيين يربو الآن على سبعة ملايين وسبعمائة وعشرين ألف لاجئ يعانون من التهجير والقهر والذل، وهذه النسبة تمثل حوالي (67%) من إجمالي عدد الشعب الفلسطيني، وفقاً لآخر إحصائية في عام 2012 قدرت عدد كثافته السكانية بنحو (11.55) مليون نسمة، ولو نظرنا للموقف العربي والإسلامي من القضية الفلسطينية فحدث ولا حرج، وهل نسينا ما حل بإخواننا في العراق …؟ وهل نسينا أيضا ما يُفعل بإخواننا في بورما التي لا يكاد يذكرها أحد …؟ إخواننا هنالك يقتلون لا لذنب إلا لأنهم مسلمون، لذلك فهم يحرقون أحياء، وينكل بهم ويُمثل بأجسادهم، ويغرقون في اليم هرباً من القتل والحرق والتمثيل بهم، فلا يجدوا إلا أشباح الموت تطاردهم في كل مكان، فمنذ متى وهم يستغيثون بالعالم العربي والإسلامي الضعيف، وبالعالم الغربي الخائن الذي يتغنى بحقوق الإنسان التي باتت تشبه الطبل الأجوف الذي يسمع من بعيد وباطنه من الخيرات فراغ. وكما سبق وأن ذكرت فالقائمة طويلة بطول الجراح النازفة، يقابلها تخاذل وجبن وضعف وانهزام على الصعيد الدولي برمته، فهل نسينا حجم تلك المأساة …؟ أقول نعم، قد نسينا وسننسى وسيطول النسيان، وسيأتي الدور علينا واحداً تلو الآخر، إن لم نستفيق من غفلتنا ويتوحد صفنا وكلمتنا، وإلا فعندها لن ينفع الندم، ولن يجدِ البكاء والعويل،وليتنا لزمنا الصمت ووارينا ضميرنا العربي في الوحل والتراب، بعدما أوصدنا الأبواب في وجه اللاجئين السوريين، وفتحت لهم بعض الدول الغربية الأبواب مشرعة لاستضافتهم وإيوائهم وتقديم يد العون لهم، بل راح إعلامنا العربي الخائن يروج على مرأى ومسمع من العالم كله على تحريض أوروبا ضد اللاجئين السوريين، زاعماً أنهم إرهابيون ومتطرفون وأنهم ينتمون إلى تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وأنهم قادمون إلى القارة الأوروبية بجوازات سفر سورية مزورة لارتكاب أعمال التفجير والقتل والترويع، وحسبنا الله ونعم الوكيل. وفي الختام أود أن أتساءل، إلى متى يظل العرب والمسلمون يشاهدون ما يفعل بإخوانهم في كل بقعة من بقاع الأرض، ولا يتحرك لهم ساكن …؟ متى ستستيقظ نخوتنا وعروبتنا وإنسانيتنا وضمير أمتنا الغارق في أدنى درجات الانحطاط والتردي …؟ أين من يتشدقون بالحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان التي أصبحت الآن في مرحلة أدنى من حقوق الحيوان …؟ أين المنظمات الدولية، والأممالمتحدة التي لا تتحرك إلا لخدمة الأهداف والمصالح الأمريكية …؟ أسئلة لن تجد لها جواب في أمة هانت على نفسها وهانت على أعدائها، ولم يعد يعرف الحق والعدل مسلك لها أو سبيل، وحقاً، ولو ناديت إذ أسمعت حياً ولكن لا حياة فمن تنادي …؟.