لم أكن قد رأيت فيلم «المومياء» للراحل شادى عبدالسلام، قبل أن «يشتغلنى» أحدهم وقت الولع بالسحر والسريانية، ومثلثات اليونان السحرية المسماة «طلسم» وقد انبهر بى جداً عندما بُحت له سراً مقدساً، أن الطلسم بعد حذف التعريف معناه فى مقلوبه مسلط. أراد هذا ال«أحدهم»، أن لا يقل عنى تعمقاً بالأسرار المستغلقة، فأخبرنى بتعويذة قادم بها من الصعيد الجوانى، فور أن أقرأها يأتينى خادم التعويذة، طيفاً أزرقاً، ويكتب اسمى فلا يندثر ذِكْرِى على مر السنين. وتلوتها: أنت يا من تسكن فى قلب البيت الكبير يا أمير الليل والنهار جئت لك روحاً طاهراً فهب لى ثمن اتكلم به عندك واسرع لى بقلبى يوم أن تتثاقل السحب، ويتكاثف الظلام اعطنى اسمى فى البيت الكبير، وأعد إلى الذاكرة اسمى يوم أن تُحصى السنين. نمت منبهراً بقوة هذه التعويذة، التى لم تكن سوى نصا فى «كتاب الموتى» الفرعونى، ورأيت بالحلم اسمى محفوراً على لوحة رخامية بباب مستشفى، ببلد أرفض أن أبوح باسمه الآن. مرت السنين وقطّعتنا إرباً إرباً، بلا هوادة، حتى التقطت مسامعى كلمات والده الذى عرفته جيداً يقول: (الشغلانة بتاعتهم دى باظت يا ولدى، مش لاجى صفيحة جاز أسجى بيها الزرع، بُكره نصحى منلاجيش الدمس، والجوع جاى يرمح، راجع من الفرح إللى جالوا هيحضره خمسين ألف رحت لجيت خمسين وملجيتش الألف، ضيعوا علَىَّ المسلسل، البطل كان هيموت الليلة). كان يجلس بجانبى على «الكنبة» الأخيرة «بالميكروباص» بملابسه المعتاد عليها أهل الجنوب «الجوانى» والعمامة الملتفة حول الحكمة الإجبارية التى (علّمت القلب الحذر)…، حذر البوح التى اعتدناها من أهل الجنوب «الجوانى». ملامح وجهه المتكسرة، تأبى الذل، انتبهت لأنين كلماته، وآثر أن ينهيها بأن يوحى لى أنه يتحدث «وىَّ حاله» ربما موفراً علىَّ عناء الرد، قائلاً: ربنا يصلح الحال. لم أدرِ ماذا أصنع أمام هذه الشيبة، تصارعت وتشكلت الردود القاسية، التى لم أصرح له بها، تداعت علىَّ، على التوالى والتوازى، :أخيراً نطقت، ربما،:حمدلله على السلامة، ربما، لا أود أن أصرح لك أنت أيضا أيها القارئ…. أبَى الصعيد إلا أن يكون مجاهل تئن بلا صوت، وكأن الصعيد تحت العمامة، يابس بلا حلم، وكأن خطوط القدر الإجبارية المصير، قد رسمت له ظلماً صريحاً، وكأن السماء تخشى على نفسها منه، وكأن ألف تشبيه قاسٍ يحضرنى الآن، اقبله…. دائماً حذرنى أهله أن أوغل فى دهاليز هذا المغيب، ربما شفقة على مكتوب يخرج شائهاً، ربما كبرياء، «تعرف إيه أنت عن الصعيد»، ربما، تآمر أهله جميعاً أن يظل «الجوانى» اسماً على مسمى «جوانى». ربما أرادوه كهفاً سرياً، يغسلون فيه وساخات غُربتهم فى شَمالهم، وشرقهم، وغربهم، أو أرادوه قبراً مهجوراً يوارى أجسادهم لبعث جديد، أو أرادوه لغزاً لغاية تواصوا على كتمانها… لا أدرى. مساحة شاسعة من كل شىء، لا أعرف لها من أين أبدأ وكيف سأنتهى وهل سأنتهى، لايهم، كسبت جولة عليكم، ها قد باح أحدكم، / أن يخبرك أحدهم عن الجوع لن يفهمها إلا صعيدى/ أن يخبرك صعيدى عن الجوع؛ صدقه؛ اعلم أنه جوع حقيقى/ أن يخبرك صعيدى عن الجوع فلا يقصد شظف عيش اعتادوه ببساطة/ ومن عجائب عربيتنا المقدسة أن الشِّظْفُ: ما احترق من الخبز…. غُربتكم فى – شَمالنا – التى تباهيتم أنها لم ولن تؤثر فيكم، قد علّمت أحدكم أن يبوح لعابر سبيل مغلق على غيركم. سيروا على تعاليم جبالكم القاسية، أطعموا أرواحكم لذة أن لا يفهمكم أحد، غذوا أجسادكم بخبزكم الحجرى. افرحوا أن يظل غريبكم بينكم بلا وضوء يتيمم صعيداً طيباً… . قريباً ستنال منكم الغربة، وسيصيح رثاؤكم نبوءة: يا برج عالى فى طريج الواحة لما وجع شت الحمام وراحا يا برج عالى فى طريج الغايلى لما وجع شت الحمام فى الليلاى وللحديث ألف بقية انتظرها… واستبشرت خيراً… . [email protected]