الصعيد بعيد جداً عن عيون بهوات العاصمة، وكل يوم يبتعد وينسلخ أكثر عن القلب. تستغربون لأن الصعيد يمنحكم فرصاً كثيرة للاندهاش والتعجب. تحاولون فهْم تصرفات الصعايدة فلا تصلون لشىء. الفقر مدقع ومع ذلك تجد من لا يملك قوت يومه يحمل سلاحاً آلياً.. إنهم يفعلون ذلك لأنهم يرون أنفسهم خارج حماية الدولة وأن أمنهم مثل مسكنهم وطعامهم وصحتهم مسئوليتهم الشخصية. أما الدولة فتأخذ فقط.. تحصّل ضرائب الأطيان الزراعية وفوائد بنك التسليف، لكنها لا تعطى شيئاً ولا تقدم خدمة. الصعيد، خصوصاً الجوانى، يحمى نفسه بنفسه، وربما هو أكثر بقعة تأمن الدولة شرها. كلما أتيت لقريتى بكيت لحال الناس، ولضعفى فى أن أمد لهم يد العون.. الفقر هنا فى أعلى معدلاته ومع ذلك يمشى الناس بكبرياء رغم أن بطونهم خاوية.. تصيبهم العلل والأمراض ولا يجدون دواء لأوجاعهم، لكنهم لا يصرخون ولا يولولون.. الوادى يضيق ويكاد ينفجر والدولة لا ترى.. التكدس فى القرى والمدن يتزايد كل يوم، بينما الأرض تضيق على من فيها. الصعيد بعيد عن العين.. تندهشون من ردود أفعال الصعايدة ولا تجدون لها تفسيراً.. الصعيد حمل على أكتافه الإخوان وأوصلهم إلى البرلمان.. كسر قواعد القبلية وذهب إلى أقصى الطرف وأعطى صوته لمرسى رئيساً، عناداً وانتقاماً، من عجرفتكم وغطرستكم وغروركم. كيف كنتم تريدون أن يمنح صوته لرجل يفضل ارتداء التيشرتات الملونة على أن يزور الصعيد؟ دفع الثمن كما تعود من لحم صغاره الذين تناثرت أشلاؤهم على قضبان السكك الحديدية، مثلما توزعت أشلاء غرقاه على الأسماك فى عبّارة الموت. صبر على الابتلاء وكان أول الخارجين على الجماعة فى 30 يونيو. لا تندهشوا ولا تولولوا فى فضائياتكم ولا تثرثروا فى صحفكم إن فاجأكم بما لا تتوقعون. لا تصرخوا إن عاندكم وخالفكم وتصرف عكس طموحاتكم وأهوائكم. لقمة العيش باتت مرة وصعبة فى وادٍ رزقه كجغرافيته، واد قاس ومحاصر، وحياة سكانه محصورة بين جبلين وصحراءين. حياة تحتاج لدولة تكسر الجبل وتفتح منفذا جديدا للوادى.. الصعايدة تعودوا على العمل الشاق ومستعدون لبناء سد عالٍ جديد.. مستعدون لكسر الجبال وغزو الصحارى.. الصعايدة يعيشون بالعمل وتقتلهم البطالة ويعذبهم الفقر. لو أرادت الدولة لجعَل الصعايدة الوادى من النهر إلى البحر ومن النهر لبحر الرمال. أقسم بالله الصعايدة يستطيعون. الدولة قدمت فكرة عظيمة قبل 25 يناير لفتح الوادى على البحر بطريق سوهاج البحر الأحمر، لكنها تركته طريقا للموت بجعله مجرد طريق لا شىء حوله.. لا زراعة ولا صناعة ولا مساكن. الرقعة الزراعية تضيق والفقر يتمدد كثعبان عملاق يلتف حول الرقاب قبل أن يلدغها. لا شىء هنا يسير إلى الأمام، ففى قريتى تنقطع الكهرباء كلما تحركت الرياح لأن الأسلاك قديمة وتتلامس مع أى حركة للهواء، الكهرباء تقطع مرات كثيرة لأنه لا أحد يملك إيقاف الهواء إلا الله.. فى قريتى يمرض الناس فيداوون أنفسهم بطرقهم القديمة، لأن المستشفيات لا تقدم دواء ولا تشخيصاً.. فى قريتى زاد عدد السكان ولم يزد الرزق.. لا شىء هنا اسمه «بطالة» لأنه لا شىء اسمه عمل. الصعيد يتفرج على فضائياتكم وكأنها تتحدث عن «ناس تانية». لا تشغله مظاهرات العاصمة ولا تعنيه محاكمات الإخوان إلا من باب التسلية. همومه أكبر ومشاكله أعقد. كل أحلام الصعايدة خارج حدود الوطن. كل طموحاتهم وأمانيهم فى الخارج. وما من شاب أو حتى كهل يرى حلاً لمشاكله إلا فى السفر إلى الخليج «الكويت تحديداً». لا يتأملون فى الدولة ولا يثقون فى حكومتها ولا يعولون على العاصمة. ينتظرون «عدم ممانعة» للسفر إلى الكويت حتى لو حملوا الصخور على أكتافهم. الصعيد فى عزلة إجبارية أو اختيارية. لا ينتظر من نحل الحكومة عسلاً، ولا يريد من الدولة ثمناً. أتعجب كثيراً عندما يرجعون كل مصائب سيناء لقلة التنمية. الصعيد أكثر عددا بكثير، وأكثر فقراً بمراحل، ومعدلات التمنية أعلى فى سيناء، وليس صحيحاً أن أهل سيناء لم يستفيدوا من التنمية التى تمت على أرضهم، فالسيناوية يضعون أيديهم على كل الأرض ويأخذون «ثمن وضع اليد» عند بيعها.. الصعايدة لا يأخذون إتاوات على المصانع أو المزارع أو الفنادق. ليس فى الصعيد تنمية، ولم يُقتل فيه جنود على لحم بطونهم، ولم يَخطف جنوداً مجردين من السلاح.. لا أسقط طائرات ولا فجّر سيارات ولا حرق ممتلكات الدولة، ولا خرج منه خائن يبيع أرضه أو يقاتل ضد جيش بلاده.. لم نسمع فى سيناء أن القتلة تبنوا مشاكلها ولا تحدث المجاهدون بأجر عن بؤس حالها. سيناء ظلمت وغيرها ظلم أكثر، فربما يتسبب الفقر فى تفشى الجريمة، لكنه أبدا ليس سببا للخيانة ولا يمكن أن يكون مبررا لقتل جنود يؤدون مهمة وطنية ويحمون البلاد والعباد من شر الأعداء. الصعيد ما زال شريفاً فى خصومته مع الدولة، عفيفاً فى سؤالها، وطنياً فى الدفاع عن جيشه، لكنه ربما يفاجئها بما هو دون ذلك.