من الخصائص الواضحة للفكر العربي المعاصر أنه فكر واقعي بالدرجة الأولى، فهو يتكون من مشروعات، وليس من مذاهب ونظريات كالفلسفة الغربية؛ نظرًا لطغيان منهج الخبر والنقل عند الجمهور، بما يمنع المجتمع العربي من التعاطي مع المذاهب البشرية الأصيلة، فهو لا يقدم رؤية خالدة بصدد موضوع من موضوعات الوجود والمعرفة والقيم خارج الجغرافيا والتاريخ، وإنما يقدم (معالجات) من أجل إحداث (تحولات) اجتماعية وفكرية في حدود مجتمعه ولحظته التاريخية، وهو المعنيّ هنا بعبارة كونه فكرًا واقعيًّا. وهو في واقعيته ينحاز إلى قوى اجتماعية بعينها، أي يصير فكرًا مؤدلَجًا في الأعم الأغلب؛ أي أنه لا يقدم بحثًا علميًّا موضوعيًّا يمنح القارئ فهمًا أعمق وأشمل عن ظاهرة أو نظرية أو مفهوم أو منهج، بل يقدم ما تنتظره تلك القوى الاجتماعية التي ينحاز لها، ليكون عمله غطاءً فكريًّا وأيديولوجيًا من أجلها. بالرغم من ذلك ظهر استثناءان من الحكم السابق الواقعي/الأيديولوجي: فبعض المفكرين العرب المعاصرين قدموا نظريات وليس مشروعات، مثل بدوي في وجوديته، وزكي نجيب محمود في وضعيته المنطقية، وبهذا الطريق انعزلوا عن الجمهور. ومن جانب آخر حاول بعض المفكرين العرب المعاصرين تقديم أبحاث موضوعية علمية نقدية، ومن أهم هذه المحاولات: محاولات الجابري وعبد الله العروي ونصر أبو زيد. وقبل التعرض للجابري فإن ما انتهى إليه نصر أبو زيد هو الأيديولوجيا في النهاية، رغم ما أعلن من نقد للأيديولوجيا في الفكر العربي المعاصر، وما حاول تقديمه من بحث نقدي، وبالتالي تظل محاولة عبد الله العروي في التوقف إزاء المفاهيم واحدة من المحاولات النادرة العلمية النقدية في الفكر العربي المعاصر، وإن كان الجابري أكثر شهرة في هذا الصدد. وترتكز شهرة الجابري باعتباره قدم محاولة نقدية علمية في قراءة التراث الإسلامي على نقطتين: الأولى أنه استعمل المنهج البنيوي الذي يمكن الباحث أكثر من غيره من الوقوف على البنى الفكرية المجردة دون توجيه أيديولوجي لها، كما أنه عكس العروي لم يقدم استقصاءً لمفاهيم، بل (مسحًا) شاملًا للتراث الإسلامي وما قبل الإسلامي، في ما أسماه بسلسلة (نقد العقل العربي)، فهي نقد أي بخلاف الأيديولوجيا، وهي للعقل أي للبنى النظرية وليس للتاريخ الاجتماعي، وهي للعقل العربي أي في انبنائه على العقل العربي قبل الإسلام وما بعده. وتعود إرهاصات نقد العقل العربي إلى محاولة أدونيس الرائدة في هذا الصدد، فقد قدم أدونيس في (الثابت والمتحول) 1973 أول محاولة من نوعها لعملية مسح شاملة للتراث الإسلامي، وقد أعلن أنه سيستعمل المنهج البنيوي، لكنه لم يلبث إلَّا أنه استعمل المادية التاريخية في صورتها العربية؛ ليدرس علاقة المجتمع الفكر، وهو ما نقده الجابري في مقدمة مشروعه. رأي الجابري أن أدونيس خالف منهجيًّا ما وعد به، وما كان يجب عليه القيام به، لكنه تأثر به في شمولية المشروع القرائي، وقام بالخطوة نفسها بمنهج مختلف ولأهداف مختلفة أيضًا. وتعد محاولة الجابري المحاولة الأهم بين الدارسين العرب للتحليل العلمي والوصف الموضوعي للعقل العربي، ومع ذلك اعترتها الأيديولوجيا من جانبين: الأول: تصنيف الجابري لبعض الجماعات الفكرية باعتبارها جماعات أيديولوجية. والمفكر العربي المعاصر حين يصنف الآخر أيديولوجيا، إنما يعكس انحيازه هو الأيديولوجي في الوقت نفسه، كتصنيف المعتزلة باعتبارهم أيديولوجيي الدولة الليبرالية في عهد المأمون. فهو يتخطى في هذا الحكم الدقة التاريخية المستحيلة بنسبة كاملة على أية حال ليعيد بناء نموذج فكري (المعتزلة هنا) وفقًا لرؤيته عن الخلف المعاصر لهم الذي ينحاز ضده (فقهاء ومثقفي السلطان)، وهو ما نسميه بال (أيديولوجيا السلبية). والثاني: أنه رسم خريطة تاريخية للعقل العربي، من مخاضه العسير في المشرق الإسلامي، وكفاحه عبر حروب عسكرية وفكرية، حتى وصوله إلى الأندلس. وتوازت هذه الخريطة الجغرافية مع خريطة الجابري الفكرية بالتتابع نفسه: من البيان، إلى العرفان، إلى البرهان، حيث مثل البرهان في المغرب الإسلامي نهاية تاريخ وقمة تطور العقل العربي. وفي هذه القراءة ينحاز الجابري على مستوى تصوره الشامل عن العقل العربي إلى مدرسة بعينها، هي البرهان، تبدو كما لو أنه وضع المشروع وقام بقراءة التراث من خلاله، مستهدفًا هذا الهدف في النهاية. لم يزل الفكر العربي المعاصر ينتظر محاولات نقدية علمية، تكون أقل شمولًا وأكثر تواضعًا، وأكثر قناعة بقدر أقل من الشهرة والدويّ، تستقصي المفاهيم والنظريات والمناهج في العقل العربي أو الإسلامي بهدف فهمهما، ومنحنا وعيًا علميًّا محايدًا بمضامينهما النظرية، بحيث تكتسب هذه المحاولات قدرة العلم النافذة على الإقناع في حدود الموضوعية الممكنة في العلوم الاجتماعية في مختلف الاتجاهات الأيديولوجية.