احتل مفهوم (إعادة البناء)Wiederaufbauمكانة هامة في الفكر العربي والإسلامي المعاصرين؛ وهو الذي يعني قيام المفكر بإعادة تشكيل النسق الفكري على أسس بديلة مع الاحتفاظ بالنسق نفسه، أي دون نقضه، وذلك من خلال زرع مفاهيم معينة أساسية، أو تفكيك عام للنسق ثم إعادة بنائه بشكل شامل. وهو تجاوُز لمفهوم "التجديد"، الذي صار تقليديًا، والذي لا يفي بأغراض عدد من الباحثين والمفكرين، في إعادة تأسيس العلوم الإسلامية من الأصل، اهتداء بموقف نقدي، وأيديولوجيا محددة، من أجل تحقيق مستوى أكثر جذرية من مستويات النقد والتثوير الثقافي. وتظهر الحاجة إلى إعادة البناء حين يتأكد لدى المفكر أهمية دور التراث في تشكيل الوعي وأثره على الواقع، أو بالأحرى حين يتيقن من عدم إمكان استبعاد هذا التراث، مع إمكان إجراء تغييرات محورية في أسسه المفاهيمية والنظرية والمنهجية، أو بنيته النسقية. فالمشترك إذن بين محاولات إعادة البناء هو هذا الموقف الأيديولوجي-الثقافي على النحو الموصوف أعلاه. وقد حقق هذا المفهوم-مفهوم إعادة البناء-من الأهمية الدرجةَ التي تجعل همّ بحثه، مفهومًا، ومنهجًا، وتطبيقًا، لدى الباحثين الجدد، أمرًا ملحًا، يحقق تواصلاً بين جيلين أو أكثر، ويعيد النظر في تلك المحاولات، وينقدها، أو يعيد بناءها هي نفسها. وبرغم أن المفهوم نفسه في صياغته الحالية لا يمتد تاريخه في الفكر العربي الحديث أكثر من ثلاثة عقود، على الأقل بالقدر ذاته من التداول، فإن إعادة بناء العلوم الإسلامية كعملية ممنهجة لا ينحصر امتدادها التاريخي في تلك ثلاثة العقود. فهل وجدت محاولات في إعادة بناء العلوم الإسلاميةقبل الفكر العربي المعاصر؟ في الواقع يمكن النظر إلى محاولة الشافعي في تأسيس علم أصول الفقه باعتبارها إعادة لتأسيس علم إسلامي بالغ الأهمية، يعتبر في نظر عدد من المفكرين العرب المعاصرين، كأدونيس، والجابري، وحنفي، العلم المنهجي في الإسلام، وأصول المعرفة فيه، ويعتبره كاتب هذه السطور علم أصول القانون وأصول التفسير في الإسلام. فقد كان أصول الفقه قبل الشافعي (ت204ه) معروفًا كمجموعة أصول استدلالية نصية وعقلية، لإحكام عمل المجتهد. وربماتكون رسالة الشافعيأول محاولة من نوعها في تاريخ الإسلام إعادة بناء العلوم الإسلامية. ويعتقد بعض الباحثين أن هذه المحاولة، التي أثمرت المذهب الشافعي، قد أعادت تأسيس العلم على أسس نصية، وذلك بمدّ دور السنة، لتصبح البيان الثاني بعد الكتاب، وعلى درجة مقاربة له في المكانة، ومساوية له في الوظيفة. وقد سبق للكاتب أن وصف محاولة الشافعي تلك باعتبارها (تثويرًا) لهذا العلم يسبق محاولات تثويره المعاصرة بمئات السنين، لكنها كانت ثورة (إلى النص) وليست عليه. تلتها محاولة الحكيم الترمذي (ت295-320ه) في كتابه "إثبات العلل" في إقامة التشريع على أسس ميتافيزيقية وأسطورية صوفية، تمثل أصول الصوفية الفقهية بشكل أساسي، بحيث قدم تنظيرًا لأصول الفقه يعتبر تيارًا مستقلاً، أو على الأقل، محاولة نظرية مستقلة عن المذاهب الأصولية المعروفة. وجاءت بعدها محاولة الدبوسي (ت430ه) في "تقويم الأدلة"، وهي من المحاولات المبكرة والجذرية لإعادة بناء علم أصول الفقه، واكتشاف نظرية المقاصد للمرة الأولى (عكس الظن الشائع في اكتشافها للمرة الأولى على يد الجويني المتوفَّى في 478 ه)، واكتشاف الأسس النظرية لنظرية الحق في علم أصول الفقه. هذا المؤلَّف الخطير في أهميته-تقويم الأدلة-مثّلَ وقفة جذرية مع هذا العلم، وإعادة اكتشاف أسس التشريع نصًا وعقلاً. وتتبدى أصالة هذه المحاولة في استكشاف منطق جديد للحظر والإباحة، يقوم على وجود قيم طبيعية وعقلية لا يكتسبها الإنسان من النص الديني بل من عقله وتجربته الاجتماعية، وبحيث يتأسس الشرع جزئيًا عليها. ثم كانت المرحلة الرابعة لإعادة تأسيس العلم هي محاولة أبي حامد الغزالي (ت505ه) الأكثر شهرة في "المستصفى في علم الأصول"، وبرغم هذه الشهرة فقد كانت أقل جذرية من سابقتها. ثم جاءت محاولة أبي إسحاق اللخمي الغرناطي الشاطبي (ت790ه) التي لا تقل شهرة لتأسيس العلم على أساس المقاصد في "الموافقات في أصول الشريعة"، وهي المرحلة الأكثر تنظيرًا على الإطلاق في هذا العلم. وفي الفكر العربي-الإسلامي المعاصر ظهرت كذلك محاولاتإعادة بناء العلوم الإسلامية. وبينما تمتعت قديمًا علوم إسلامية مختلفة بمحاولات لإعادة البناء، كأصول الفقه، وأصول الدين، والتفسير، والتصوف، وغيرها، فإن علم التفسير هو العلم الذي حظيَ بالاهتمام الأكبر من المفكرين العرب المعاصرين قبل السنوات الخمسين الأخيرة في القرن العشرين الميلادي، على الأقل على المستوى الكمي لمحاولات إعادة بنائه. ويرجع هذا لعاملين: أولاً: أهمية التفسير في التعامل المباشر مع النص القرآني، والتعامل مع العقل الإسلامي في الوقت ذاته، وثانيًا: نقص الوعي النظري نسبيًا لحساب الوعي الأيديولوجي، فالمفكر الأكثر تنظيرًا ينظر في الأصول، وليس في التفسير الذي هو تطبيق لأصول منهجية: لغوية وبلاغية وتاريخية ووثائقية وفلسفية وعقدية. وأشمل محاولات إعادة البناء في الفكر العربي المعاصر هي مشروع حسن حنفي. وإلى جوار هذا المشروع هناك محاولات متنوعة لإعادة بناء أصول الفقه (عند محمد تقي المدرسي مثلاً)، والتفسير (عند المرزوقي والجابري وغيرهما)، وإعادة بناء علم السياسة الإسلامي (عند منى أبو الفضل، على حد تعبيرها)، وغيرها من العلوم. كريم الصياد Köln 16.5.2014