من الوارد والممكن أن يكون للفيلسوف أكثر من مشروع؛ مشروع يقدم فيه أفكاره ونظرياته الخاصة بالإنسان والمعرفة والعالم، ومشروع يعبر عن توجهه الاجتماعي والسياسي، يقدم فيه رؤيته وتطبيقه، لمشكلات مجتمعه. وتحتاج المجتمعات العربية والإسلامية إلى مفكرين شباب، يتحركون بوعي يستفيد من عوامل وأحداث ونواتج ثورات الربيع العربي خاصةً، كما يحيطون بحدود المحاولات الفكرية التي قدمها الجيل السابق من أصحاب المشاريع العربية المعاصرة، أمثال الجابري وحسين مروة وحسن حنفي ونصر أبو زيد.. إلخ، من أجل النهضة بوعي أبناء هذه المجتمعات، وإخراجها من مرحلة عنق الزجاجة، من العصر الوسيط العربي-الإسلامي (الفترة الحالية) إلى عصر إصلاح ديني، ونهضة، وحداثة. وأساس المشروع النقدي ببساطة هو أن المحاولات أو المشاريع الفكرية العربية المعاصرة المذكورة أعلاه، وغيرها، لم تقدم نقدًا حقيقيًا للعقل العربي-الإسلامي، أي: نظرية المعرفة والقيمة الغالبة الثابتة عند العرب والمسلمين. والرابط بين العرب والمسلمين كمصطلحين هو الدين الإسلامي، الذي يمثل قلب الثقافة في الدائرتين. والنقد الحقيقي المذكور هو: اكتشاف واختبار ذلك العقل دون التسرع في تأويله. ذلك أن المشاريع الفكرية العربية المعاصرة كانت مشاريعَ للفِعْل أكثر منها مشاريع للفهم. وهذا هو السبب في أنها قدمت معالجات أيديولوجية (لا نقدية ولا علمية) إيجابًا، وسلبًا، للتراث العربي-الإسلامي، إيجابًا بتحويلها إلى أيديولوجيات تقدمية، وسلبًا باكتشاف حفرياتها الأيديولوجية، ومن ثم محاولة تفكيكها بناء على كشف "المسكوت عنه" في التراث. وحتى من تصدى بالنقد لهذه المشارع من المفكرين العرب (مثل نصر أبو زيد)، وحاول تقديم أطروحة نقدية خالصة، وقع نفسه في الأدلجة، ومشكلة المعالجات الأيديولوجية السلبية هي أنها (تفترض) بناءً على أيديولوجيا المفكر المعاصر أيديولوجيا قديمة عند المفكر العربي أو الإسلامي، ثم تحاول تأويل هذا المفكر أو ذاك بناء على هذه الافتراضات. وقد آن الأوان لتقديم أطروحة نقدية نقية، تتخلص من الأيديولوجيا، لتمنح فهمًا موضوعيًا أفضل للعقل العربي-الإسلامي. ويقوم المشروع النقدي بهذا المعنى على ضرورة تجاوز خطرين: 1-خطر الأدلجة الإيجابية أو السلبية: ويمكن تجنبه بتنحية الفروض المسبقة، وتقديم دراسات وصفية، والبدء بالتساؤل بدلاً من الإجابة، وتفعيل مناهج دقيقة صارمة لدراسة الظواهر الفكرية تنحي الفرض المسبق جانبًا، وفوق وقبل كل ذلك: فهمُ أنَّ الفهم نفسه خطوة حقيقية وعملية على طريق التقدم، وأنه لا حاجة بالمفكر لأن يكون صاحب أيديولوجيا كي ينهض بمجتمعه، فهذا جهد أجيال متراكم، وليس المفكر رجلاً خارقًا ولا إنسان نيتشه الأعلى، فالمفكر الخارق قد يكون بطلاً اليوم، لكنه لن يقدم فهمًا، ولن يضيف إلى المعرفة، غدًا. 2-خطر إسقاط نظريات ومفاهيم غربية سائدة: ويمكن تجنبه بمنهجية عامة للدراسة التاريخية-البنيوية للعلوم الإسلامية التي تم تعيينها في مقال سابق (أصول الدين وأصول الفقه والتصوف). وهذا يتلافى البحث الذي يبدأ باستكشاف نظرية ماركسية مثلاً عند المسلمين (حسين مروة، وحسن حنفي وغيرهما)، أو نظرية ليبرالية (الجابري مثلاً)، أو فلسفة وجودية (عبد الرحمن بدوي).. إلخ، فهذه كلها إسقاطات سببها سيادة المركز الغربي في العلوم الاجتماعية والإنسانية. يجب أن يبدأ البحث بداية أصيلة تكتشف النظرية نفسها في التراث المدروس، ولا بد أن يبدأ البحث في هذا باللفظ، فإذا لم يوجد اللفظ فلا دلالة أصيلة، وبالتالي يصبح البحث مزيفًا. فإذا أراد الباحث مثلاً استكشاف نظرية الحق في الإسلام، فعليه أن يبحث في أي العلوم يمكن أن يستكشف هذه النظرية؟ ثم يبحث عن كلمة الحق ومشتقاتها في المصادر، ومن ذلك يخرج إلى بلورة مفهوم، ثم يقوم باستكشاف العلاقات بين هذه المفهوم وبين غيره من المفاهيم الأهم في هذا العلم، ومن ثم تنتُج النظرية، التي بربطها بسواها من النظريات في هذا العلم وغيره من العلوم تتحول إلى نسق متكامل يعبر عن العقل العربي-الإسلامي، وليس العقل الغربي، ولا أيديولوجيا الباحث. من اللفظ إلى المعنى إلى المفهوم إلى النظرية إلى النسق، هذا هو المشروع النقدي في منهجيته العامة. كريم الصياد